القيادة والسرعة الزائدة
د. عارف الشيخ
لم تكن السيارات موجودة في عهد فقهاء المذاهب الأربعة الفقهية المعروفة، ولا في عهد الفقهاء الذين سارت بفتاويهم الركبان، كالنووي والرافعي والسبكي، والعلامة خليل والدردير وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
هؤلاء لو عاشوا في أيامنا، لأفتوا بأن السيارة من أدوات القتل، وأن الذي يقودها يصنف ضمن إحدى الفئات الجنائية المعروفة فقهاً وهي: القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ.
وعلى الرغم من أن مرتكبي حوادث السير اليوم يصنفون ضمن القتل الخطأ، ومن ثم فإنهم يتحملون دية المقتول، فإن لي وقفة مع هذا القرار وهذه الفتيا. وقبل أن أبين وجهة نظري، أود أن أقول: يقسم معظم الفقهاء القتل إلى ثلاثة أنواع: قتل عمد، وشبه عمد، وخطأ.
ويقسم أبو حنيفة القتل إلى خمسة أنواع: عمد، شبه عمد، خطأ، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب.
فالعمد عنده ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلاح كالسيف والرصاص، أوالإبرة في مقتل مثلاً.
وشبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح كالعصا والحجر مثلاً.
والقتل الخطأ ما لا يقصد به القتل، كأن يرمي إنساناً ويعتقد أنه طير أو حيوان.
وما أجري مجرى الخطأ كأن ينقلب شخص نائم على آخر جالس أو نائم فيقتله.
والقتل بالتسبب كالقتل الذي يحدث بواسطة غير مباشرة، كأن يحفر بئراً في طريق عام في غير ملكه من غير إذن، فيقع فيها أحد المارين فيموت.
ويذكر الدكتور وهبة الزحيلي في الموسوعة الفقهية رأي صاحبي أبي حنيفة اللذين يريان أن القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة، يعتبر قتلاً عمداً، أما شبه العمد كأن يتعمد ضربه بما لا يقتل غالباً كالحجر الصغير مثلاً.
أقول: وهذا الرأي ينطبق اليوم على من يقود سيارته بسرعة جنونية، ويتسبب في قتل إنسان عابر في الطريق أو جالس في بيته أو واقف في مكان آمن.
نعم، ينطبق عليه لأكثر من سبب: يقود سيارة يقدر وزنها بعدة أطنان، فهي إذن إذا اندفعت كانت أثقل من الحجر العظيم والخشب الكبير اللذين ذكرهما الصاحبان.
والسيارة وهي مسرعة أداة قتل بالتأكيد، ولا يقال إنها لا تقتل غالباً.
إدارة المرور حددت السرعة في الشوارع، وحذرت المخالفين، فالذي يتجاوز الحد الأقصى للسرعة لا يقال عنه إنه لم يكن يقصد قتل من يجده أمامه فجأة، لأنه علی علم تام بأنه إذا تجاوز السرعة المحددة، فلن يستطيع السيطرة على السيارة.
من أجل ذلك فإنني أتمنى من الجهات الرسمية أن تأخذ هذا الرأي في الاعتبار، فإذا أرادوا أن يحافظوا على أرواح الناس ودمائهم، فلا يجب أن تحسب قيادة المتهورين الذين يتسببون في قتل الناس قيادة عادية، وقتلهم للناس من القتل الخطأ.
وما أسهل القتل الخطأ عندما تتحمل شركة التأمين دفع الدية، ولا يلبث الجاني في السجن أكثر من ساعة أو أكثر من شهر، ثم يخرج وأهله يقولون «حليله ما تعمد القتل»، ولعمري هل هناك تعمد أكبر من أن ينطلق بسرعة 160 أو 180 كيلومتراً ليواجه سيارة أخرى بالسرعة نفسها أو أقل منها، أو يصطدم بإنسان غافل فيقتله فوراً ويقتل من معه في سيارته؟
وفي اعتقادي أن عقوبة السرعة الزائدة لو جعلت قصاصاً أو دية مغلظة على الأقل لارتدع الناس، وتقيدوا بأنظمة السير والمرور.
أما وشركة التأمين تدفع عنه الدية، فإن المستهتر لن يلقي بالاً لا للإشارات الحمر، ولا للوحات التي تحذره من السرعة الزائدة.
لذا على الحكومات أن تحقن دماء الأبرياء باتخاذ قرارات حاسمة، والأخذ باجتهاد بعض الفقهاء الذي لم يتفق عليه آنذاك، أحوط من أن نقف اليوم موقف المتفرج.