اللغة بين الهويّة والهاوية
عبد اللطيف الزبيدي
هل بات العرب هم الهمّ الذي يؤرّق العربية؟ أطنان ما كتب في ضرورة تطوير لغتنا والنهوض بها من كبواتها المزمنة، لا يقلّ عمّا تراكم من البحوث والدراسات في شأن التنمية العربية وإنقاذ البلدان العربيّة من مأزقها حضاريّاً. في الميدانين: «لا تندهي، ما في حدا». العلّة هي كثرة الكلام من دون فعل على صعيد المنهجيّة العلميّة والتخطيط العمليّ.
سخرية مصير اللغة أدهى وأنكى، لأن معالم التطوير السليم واضحة قائمة منذ أحد عشر قرناً، فقد اكتشف الجاحظ الدّاء وشخّصه ووصف الدواء، ولو من غير تفصيل. أوصى بعدم تعليم الصبيان من النحو إلاّ ما يحتاجون إليه في حياتهم اليوميّة. نحن نعرف أن أغلب النحو هرطقات نحاة. هم أنفسهم يستهزئون بسلال مهملاتهم. من بين مئات المؤلفات في قواعد العربية، لا نجد كتاباً واحداً وحيداً فيه طريقة عمليّة مختصرة لتعلّمها، بلا غرق في الزوائد، الخالية من الفوائد، أو أساليب مبتكرة لتعليم الإحساس بجمال اللغة. سعيهم باطل وفرية، وزخرفهم عاطل بلا حلية. القرن الثاني عشر الميلادي شهد ثورتين على النحو قادهما ابن مضاء في كتابه: «الردّ على النحاة»، وابن رشد في تحفته: «الضروري في النحو». لو كان ابن مضاء بين ظهرانينا، لرفع النحويّون التقليديّون المتزمّتون أمره إلى محكمة لاهاي، بتهمة الإرهاب النحويّ. للإنصاف، هو لم يهجهم، ولكنه برهن على أنهم أهل سفاسف وقشور. ولكيلا نظلمه، لا يزال كلامه غضّاً نديّاً طازجاً صادقاً في الذين يرهبهم تطوير العربية اليوم.
القضيّة في أيّامنا أعوص مقاربة وحلاًّ ألف مرّة، لأن القدامى لم تكن تواجههم معضلات من قبيل ارتباط اللغة بالتنمية، بإنتاج العلوم، بالتعريب، بالتنافس اللغوي والمصطلحيّ على الساحة العالمية، بالسباق العلميّ في العمل المعجميّ، وبالتسارع الزمنيّ التصاعدي في أداء المجامع اللغويّة. المفردات والمصطلحات الجديدة في مئة سنة من القرون الماضية، هي أقلّ عدداً ممّا يصدر في شهر اليوم، فكيف للعرب اللحاق بالمتقدّمين، والعربية لا يربطها رابط بالتنمية الجادّة المنحصرة في قلّة قليلة. العالم العربيّ كله لا يوجد فيه مركز بحث علميّ له مكانة عالميّة؟ لكن، «يخزي العين» فالأمّة متيّمة بلغتها، شغوفة بالتغنيّ بالهويّة والأصالة. بقي سؤال بسيط، وهو أنه إذا كانت العربية في زماننا غير قادرة على الحياة في عصرنا المتحوّل، فكيف ستكون بعد قرن؟ على أي حال سيراها أحفاد أحفادنا مادّة تراثيّة خصبة لدراسات الأنثروبولوجيا الثقافيّة.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللفظيّة: البديل من الهويّة اللغوية، هو الهاوية اللغوية.
abuzzabaed@gmail.com