قضايا ودراسات

الموسيقى تحلل شعوبها

عبد اللطيف الزبيدي
هذا مبحث مثير جدير بالتأمّل، خليق بأن يحتلّ مكانة خاصة في فلسفة الفن. المحور: هل تكشف لنا الموسيقى خصائص طبيعة الشعوب، وخصوصيات طرائق تفكيرها؟ تصغي إلى مجموعة من أعمال شعب أو أمة، فيمكنك إعداد دراسات اجتماعية نفسية روحية سياسية، تاريخية، تختمها بقدرات أداء الدماغ لدى أهلها.
الصين: قبل 25 قرناً أوصى كونفوشيوس الموسيقيّين، إذا أرادوا التعبير الموسيقيّ، باستخراجه من كل درجة صوتية. ظلت التوصية دستوراً إلى يومنا. يكشف المنهج العناية بكل جزئية، عدم التسرع، الصبر على البناء المحكم، المهم هو عظمة الإنجاز، لا سرعة التنفيذ ارتجالا، أخذ إيجابيات التطور والتقدم، وصبّها في قالب الهوية، ثم نشرها عالميّا. اليوم لا تجد زاوية في العالم ليس فيها شيء صينيّ. السياسة والموسيقى في الصين وجهان لعملة فكرية واحدة. التنين يتقدم بسرعة ولكنه ليس في عجلة من أمره.
الهند: منذ القديم تسيطر «الراجا» (بالجيم المصرية) على الموسيقى الهندية. الكلمة تعني «الحال» عند المتصوفة الذين هم «أهل الحال». كانت قديماً من دون آلات، كسائر الإنشاد الدينيّ لدى أكثرية الأمم العريقة. تبدأ الراجا بغير إيقاع فتصيب من لم يألفها بالملل، ثم يدخل الإيقاع تدريجاً ويتسارع ببطء تصاعدياً إلى الأوج في النهاية. صارت الراجا عرضاً موسيقياً تشارك فيه آلة أو اثنتان إلى جانب الإيقاع، وتحرّر بعضها من الكلمات، في عروض موسيقية محضة. الراحل «رافي شانكار» بآلة السيتار أوصل هذا الشكل إلى العالمية، وكذلك عازف الناي «هاريبراساد تشورازيا» وغيرهما. ذلك النمو غير المحسوس في الإيقاع هو الذي تنتهجه الهند في سياستها. من الطريف ملاحظة ظاهرة سيطرة الثنائيّ الرجاليّ النسائيّ في الأغاني الهندية، في حب متبادل حواريّ دائم. كيف يمكن فصل هذا عن الديمقراطية الهندية وحرية التعبير القائمة على الحوار؟
أوروبا: الخصائص التي تكشفها الموسيقى الكلاسيكية لا حدود لها. الأهم هو أنها الموسيقى الوحيدة التي تجاوزت التعبير عن المشاعر، إلى التعبير عن الأفكار أيضا. هذا هو أعقد مجالات التحليل الموسيقيّ. استيعاب القصة والمسرح والجمع بين كل الفنون في عرض واحد: الأوبرا. إقامة الفن على أساس علميّ من الرياضيات والفيزياء: الهارموني. التأليف الذي يدرّس في المعاهد الموسيقية، ويصبح بحوثاً ودراسات في فلسفتي الفن والموسيقى، قطع الطريق على الاستسهال والعبث والهبوط، فالميدان يسوده العلم والمعرفة والضوابط الأكاديمية والمعايير الفائقة. الموسيقى الكلاسيكية أرض لا يدخلها المتطفلون.
لزوم ما يلزم: النتيجة الارتياحية: الحمد لله لم يبقَ في العمود مكان للتعريج على الموسيقى العربية. لحسن حظها.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى