الهجرة والكوارث البيئية في سياق التغير العالمي السريع
تأليف: توماس هايلاند أريكسن
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يشهد العالم أزمة كبرى، أو بتعبير أدق، أزمات متداخلة، ومشكلات متشابكة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحداثة، ويسمي مؤلف هذا العمل، الزمن الراهن بعصر الأنثروبوسين «العصر الجيولوجي البشري»، بما بلغه الكون من مستوى حراري عالٍ، وأشكال اللامساوة الصارخة، وتغيرات سريعة لا يمكن مجاراتها.
يحاول أريكسن أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة أوسلو، ومؤلف العديد من الكتب، من بينها «العرق والقومية: تاريخ الأنثروبولوجيا»، و«أماكن صغيرة، قضايا كبيرة»، أن يقدم طريقة جديدة ورائدة للنظر في مشكلات الأنثروبوسين، إذ يستكشف أزمات البيئة والاقتصاد والهوية من خلال عدسة أنثروبولوجية (دراسة علمية للإنسان).
يطرح هذا العمل وجهة نظر جديدة ابتكارية حول عدد من القضايا من بينها استخدام الطاقة، والتمدن، الحرمان من الموارد، والتعبئة الإنسانية، والهجرة وقضايا اللجوء، وانتشار تكنولوجيا المعلومات.
يتحدث هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار «بلوتو برس» في 192 صفحة من القطع المتوسط، عن قضايا تثير القلق الكبير للإنسانية وأهمها: تغير المناخ، والبيئة، والتمدن، البقاء الإنساني، والسياحة والهجرة، والنفايات واللامساواة، والوصول إلى موارد العيش والحرمان منها. ويشير أريكسن إلى أنه في الوقت الذي تكون فيه كل الأزمات الراهنة ذات نطاق عالمي، لكن مع ذلك يمكن تلمسها والاستجابة لها على المستوى المحلي، وأنه بمجرد أن ندرك ذلك، نبدأ في رؤية التناقضات التي تكثر بين قوات الرأسمالية العالمية وطبيعة الناس المتجسدة فيها بشكل اجتماعي والممارسات المحلية. ويأتي هذا العمل في ثمانية أقسام هي: العالم مملوء جداً، جرد مفاهيمي، الطاقة، التنقل، المدن، النفايات، معلومات زائدة، النطاقات المتصارعة: فهم ارتفاع درجات الحرارة.
عالم تحت وطأة الحداثة
يتساءل الكاتب في مقدمته «العالم المعاصر… مملوء للغاية؟ كثيف للغاية؟ سريع للغاية؟ حارّ للغاية؟ غير متساو لأبعد الحدود؟ يسير بقوة على النهج الليبرالي الجديد؟ يهيمن عليه البشر بقوة؟» ويوضح أنه كل ما ذكر في الأعلى، وأكثر هو عالمنا الذي يعيش تحت وطأة الحداثة ذات السرعة العالية، حيث تتغير الأشياء، وليس هناك من حاجة إلى تفسيرها عن طريق علماء الاجتماع، وما يصادفه من ظواهر محيّرة أو استثنائية هي أجزاء من الاستمرارية التي نكتشفها بين الفينة والأخرى. الحداثة نفسها تفرض التغيير، لكن لعقود كان التغيير مترادفاً مع التقدم، والرواية المعيارية حول الماضي الحديث كانت عن التقدم والتنمية، إلا أن الأمور التي من المفروض أن تصبح أفضل، نجدها تتخذ منحى آخر.
ويضيف: «في العقود القليلة الماضية، وهنت ثقة المتحمسين للتنمية. فالحداثة والتنمية لم تستأصلا الإيديولوجيات الرجعية، والعنف الطائفي والتعصب، وبقيت الحروب مستمرة. كما أن اللامساواة والفقر لم يبتعدا»، مشيراً إلى أن الأزمات المتكررة مع تداعيات عالمية أجبرت الاقتصاديين على التراجع. وعلى الرغم من أن العديد من الدول كانت ديمقراطية بالاسم، فقد أدرك عدد كبير من الناس بأن تغيرات متكررة تجري في حياتهم وفي المحيط المباشر، من دون أن يتم استشارتهم بها. والأكثر أهمية، ظهرت قوى التقدم على أنها سيف ذو حدين. وما كان خلاصنا لمئتي عام، أي طاقة في المتناول وبسعر رخيص، كان ليصبح لعنتنا من خلال الدمار البيئي وتغير المناخ».
ويشير الكاتب إلى أن الوصفات القديمة لأجل تحسين الحياة الاجتماعية، سواء كانت من قبل المحافظين أو الليبراليين أو الاشتراكيين، فقدت بريقها. فاليسار السياسي، كان تاريخياً مبنياً على مطالب لأجل العدالة الاجتماعية والمساواة، ويواجه الآن شكلين من التحديات في صيغة التعددية وتغير المناخ، وخلق تركيب ثابت من الثلاثة ليست بالمهمة السهلة.
يستند هذا الكتاب إلى فرضية أن التغيرات السريعة التي تميز العصر الراهن لها عواقب غير مقصودة، مهمة، وبعض الأحيان دراماتيكية. والفصول الخمسة من الكتاب كلها تركز على منطقة أساسية، وتظهر كيف أن التغيرات ربما تأخذ اتجاهات غير متوقعة، والتي لم تكن في الحسبان ولا مرغوبة في البداية.
ويلخص أريكسن مناقشة عن الحركة البيئية الحديثة، بقوله إن «الحشرات المقتولة والعصافير الجائعة دفعت إلى ربيع صامت، والسيارات تدفع إلى حدوث التلوث والحوادث، والثورة المعلوماتية تدفع إلى تلوث العقول، وربما انتشار أفكار التنوير تقود إلى ردود أفعال مضادة في صيغة الأصولية». وفي محاولة منه إلى تقصي فشل الرواية العالمية الحديثة عن التقدم والتنمية، يبحث الكاتب عن التناقضات، والصدامات التي تحدث والعمليات السريعة بشكل خاطف. ويذكر أن هناك أبعاداً مادية أخرى لارتفاع درجات الحرارة يجب التعامل معها مثل المواصلات والتجارة، وهما الأوضح، مع تركيز على سفن الشحن كشرط مسبق لليبرالية الجديدة العالمية وصعود الصين إلى دور قيادي عالمي في مجال الصادرات.
محنة اللجوء
يقف الكاتب في الفصل الرابع عند محنة اللجوء الإنساني جراء الحروب والكوارث البيئية، قائلاً: «بعد سنوات قليلة، ليست قوارب اللجوء إلى جزر الكناري هي التي تتصدر عناوين الأخبار، بل عدد الناس المتزايد الذين يعبرون البحر المتوسط، وغالباً من ميناء تركي أو ليبي. فقوارب اللاجئين التي تنطلق من شمال إفريقيا تعرضت للغرق على مدى سنوات، إلا أن الأعداد في تزايد. والأمر ذاته بالنسبة للسوريين، وأيضاً الأريتيريين، والأفغان وغيرهم، وهؤلاء يواجهون مستقبلاً مجهولاً وفي العديد من الحالات، سوف يبقون في مخيمات اللاجئين المؤقتة لمدة طويلة، بانتظار انتهاء طلبات اللجوء التي قدموها».
ويضيف: «لقد كان البحر المتوسط على مدى سنوات يمثل واحداً من التناقضات الصارخة للازدهار وفرص الحياة في العالم. ومع النظام الحدودي الحالي في أوروبا والتعبئة المتزايدة في آسيا وإفريقيا، لم يصبح البحر الأبيض المتوسط حدوداً بين اليونان ولبنان، بين المغرب وإسبانيا، بل يشكل بشكل مؤثر الحدود بين ألمانيا والكونغو، بين هولندا وسيراليون. لقد رفعت اتفاقية «شينغن» مستوى الحدود إلى المستوى الأوروبي العام».
ويشير الكاتب إلى أنه تم في العقود الأخيرة الماضية هدم جدران، ومن أبرزها، جدار برلين الشهير، لكن في الوقت ذاته بنيت جدران جديدة بقدر كبير من التصميم والكفاءة – مثل ريو غراندي في كولورادو الأمريكية على حدود المكسيك، وفي الضفة الغربية – حول أحياء مسوّرة في مجتمعات غير متساوية بعمق، وأيضاً حول مخيمات اللاجئين في كاليه، وإلى جانب الحدود الأوروبية على الأرض الإفريقية في سبتة ومليلة. ويذكر أنه على الرغم من جهود الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود، لكن يبدو أنها لم تحدد نقطة ثابتة حدودية في المتوسط، إذ ليس هناك من سياج أو جدار يمنع آلاف اللاجئين الأفارقة من النزول على الأرض اليونانية أو الإيطالية. ويقول: هؤلاء الذين يغرقون على الطريق لا يتم إحصاؤهم حتى من قبل السلطات الأوروبية، فقد أجبروا أوروبا على التعامل مع حقيقة كانت تتردد في الأزمنة الرومانية حول المتوسط إذ كانوا يقولون عنه «بحرنا»، والآن أصبحت العبارة «بحر الموت».
النزوح السوري
على الرغم من أن الحدود على الصعيد النظري تم إغلاقها، إلا أنها في فترة النزوح السوري، كانت مفتوحة أكثر من أي وقت، ويرى أن انهيار الدولة الليبية يسمح بالتعبئة السهلة من خارج موانئها، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون دفع المال، وشق طريقهم من دون أن يتعرضوا للسطو أو القتل.
ويقول:«يمكن أن نعزو نمو الأعداد في قوارب اللاجئين في المتوسط إلى الحرب الدائرة في سوريا. فقد ازداد عدد الناس الفارين من جحيم الحرب من بضع آلاف في 2012 إلى ما يقارب خمسة ملايين في ديسمبر 2015. ومع ذلك، بغض النظر عن التطورات المستقبلية في سوريا، فإن أمواج المهاجرين من غير المحتمل أن تنحسر. فالعديد من النازحين يفرون من الحرب والقمع، لكن البعض الآخر يفر من الفقر المدقع»، ويضيف متأسفاً على الوضع السوري: «على شطآن المتوسط، لم تعد تجد فقط حقائب وقمامة تطفو على السطح، بل ربما تصادف جثثاً للأطفال والكبار».
وفي السياق السوري، يجد أن ما حدث ربما مرتبط بشكل أو بآخر مع تغير المناخ، فالجفاف الحاد الذي حصل شل قدرات البلاد الزراعية، ما أجبر أبناء الأرياف والمحافظات الزراعية للتوجه إلى المدن الكبرى، ولم تتعامل حكومة دمشق مع الأمر بشكل جدي، ولم تقدم المساعدة لكثير من هؤلاء، الأمر الذي دفع إلى انهيار العلاقة بين الحكومة السورية والأعداد المتزايدة من المواطنين، وهذا خلق أرضاً خصبة للمعارضة، وإنتاج فراغات في السلطة مهدت لظهور تنظيمات إرهابية مثل «داعش» لتتحكم بجزء كبير من الأرض السورية. كما ينتقد الكاتب الاستجابة الأوروبية إلى هذه الأزمة الإنسانية، حيث كان موقفها متردداً ومراوغاً، إذ إن أغلب الدول الأوروبية اكتفت بقبول عدد صغير من اللاجئين السوريين من لبنان والأردن، ما عدا ألمانيا والسويد اللتين فتحتا أبوابهما للاجئين، وتحديداً ألمانيا.
الانقسام الرقمي
يرى الكاتب أن الثورة المعلوماتية تعكس، وتدعم وتغيّر مسائل اللامساواة العالمية، ويشير إلى أن تركيز شركات تقنية المعلومات في الولايات المتحدة كبير (أسسها مواطنون أمريكيون) في لعب دور أساسي في التجسس (خاصة وكالة الأمن القومي بحسب تسريبات سنودن) على المواطنين الأمريكيين ومواطني دول أخرى أكثر من أي وكالة مراقبة أخرى في العالم. ويذكر أن اللغة الإنجليزية هي الأكثر انتشاراً على الإنترنت، واللغة السادسة على الإنترنت هي الفلبينية إلا أن الذين يستطيعون الوصول إلى الإنترنت من الفلبين هم نحو مليونين ونصف، في حين أن الأغلبية، أي ما يزيد على تسعين مليون نسمة، لا تصلهم شبكة الإنترنت بشكل منتظم وسهل.
ويرى أنه في الوقت الذي يتوفر لسكان بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الوصول السهل والروتيني للإنترنت، أغلب الناس في الجنوب العالمي لا يتوفر لديهم أي وصول. هناك اختلافات مهمة: نسبة أكبر من الهنود والبرازيليين على الشبكة الإنترنيتية أكثر من النيجيريين والأفغان. يمكن القول بشكل عام، إنه كلما كان البلد فقيراً من ناحية إجمالي الإنتاج المحلي، تناقصت فرصة الوصول للإنترنت. إلا أنه من ناحية أخرى مع انتشار أجهزة الهواتف الذكية الرخيصة ذات الصناعة الصينية، انكمش الانقسام الرقمي في دول عديدة مثل جامايكا، وبعض دول شرق إفريقيا.
ويعلق: «المحاولات المخططة لتجاوز الانقسام الرقمي على أعلى نطاق أكثر من النطاقين المحلي والشخصي يتضمن مشاريع التطوير الرامية إلى مساعدة السكان المحليين في جنوب الكرة الأرضية على الاستفادة من التقنيات الجديدة».
ويتوقف عند المناقشات التي أثيرت حول دور الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في إحداث ما يسمى«الربيع العربي» في 2011، حيث في الوقت الذي كان واضحاً أن الهواتف كانت مستخدمة بشكل نشط في تنسيق النشاطات، ولأجل تصوير ومتابعة مجريات الأحداث في شمال إفريقيا والشرق الأوسط بشكل عام، يبين أنه ليس هناك من دليل يؤكد أن التكنولوجيا لعبت دوراً أساسياً في إنتاج الوضع السياسي الساخن، قائلاً: «ما هو واضح أن الاتصالات الفورية، سواء عبر المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية أو الإنترنت أو منصات أخرى تسرّع في التفاعل الاجتماعي، وتكثّف الاتصالات وتضخّم أنواع التسريع التي نراها في النطاقات الأخرى مثل الإنتاج والاستهلاك ووسائل المواصلات».
كلنا غرباء
بعد طرح العديد من القضايا التي يعانيها العالم، يدعو الكاتب إلى أخذ الحيطة والحذر واتخاذ مواقف أشد صرامة تجاه التأثيرات الحديثة التي تخلف ضحايا وكوارث من حولنا، ويقول في ختام عمله: «في هذا العالم المتنوع بشكل لا مثيل له، والذي يعاني سخونة على صعد عديدة أكثر مما ينبغي، نبقى كلنا غرباء في أرض غريبة. وفي الوقت نفسه، جميعنا في القارب نفسه، نتقاسم المصير ذاته».