قضايا ودراسات

الهوية الثقافية الأمريكية

الحسين الزاوي

يكاد يُجمع المراقبون السياسيون المتابعون للسياسة الأمريكية، على أن سلوك الرئيس دونالد ترامب يتميز بكثير من الطيش، يصل أحياناً إلى درجة العدوانية اللفظية مع محاوريه من القيادات المحلية والأجنبية، ويُرجعون ذلك إلى عوامل سلوكية ترتبط بشخصية ومزاج ترامب. بيد أنه خلف هذه المظاهر التي تعبّر عنها هذه السلوكيات، التي باتت تشكل مادة دسمة لوسائل الإعلام العالمية، هناك معطيات ثقافية وأنثروبولوجية و«هوياتية»، تجعل تصرفات ترامب تبدو أقل شذوذاً بالنسبة لقطاع واسع من الشعب الأمريكي وخاصة بالنسبة لقاعدته الانتخابية التي ترى أن ترامب يتحدث بصوت مرتفع عما كان يقوله أسلافه بنبرة خافتة، وداخل صالونات الغرف المغلقة.
وتكمن أهمية المعطيات «الهوياتية» والثقافية في أنها تساعدنا على فهم طبيعة التحوّلات التي عرفتها الولايات المتحدة سنة 2016، والتي أدت إلى انتخاب ترامب رئيساً للجمهورية، وذلك بالرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تُجمع بشكل شبه مطلق على أن هيلاري كلينتون ستفوز بمنصب الرئاسة، حيث تذهب أبحاث جامعية أجريت مؤخراً في الولايات المتحدة على عينات من الناخبين الذين شاركوا في الاقتراع الرئاسي إلى أن العوامل الثقافية المحدِّدة للهوية الأمريكية التي صاغتها النخب البيضاء منذ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن العرش البريطاني، كان لها الدور الحاسم في دفع أغلبية الأمريكيين إلى انتخاب ترامب، وتقدمت تلك العوامل بشكل واضح لا لبس فيه، على المخاوف الاقتصادية وعلى المسائل المتعلقة بالفوارق الاجتماعية.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن الهوية الجماعية للشعب الأمريكي جرت صياغتها وترسيخها، على أيدي المهاجرين الأوروبيين، بناء على عناصر عرقية ودينية، وقد تميز الاختلاف القائم على هذه العناصر بالقوة والصلابة في وسط التجمعات السكانية التي جرى تشكيلها في سياق زحف المهاجرين الأوروبيين من السواحل الشرقية للولايات المتحدة باتجاه المناطق الغربية؛ وأسهم هذا الانتشار السكاني الكبير عبر مناطق جغرافية شاسعة وغنية بالثروات الطبيعية والأراضي الخصبة، التي كان يقطنها الهنود الحمر، في خلق وعي اجتماعي مشترك لدى السكان البيض من المهاجرين، في أهمية التمسك بالقيم المجتمعية التي تدعو إلى الاعتزاز بالصلابة والقوة، وتجعل من ثقافة حمل الأفراد للسلاح مصدراً للفخر والاعتزاز. وقد ساعدت الممارسة الديمقراطية المباشرة والمستقلة عن الدولة المركزية في ترسيخ مثل هذه الثقافة.
أما بالنسبة للقيم السياسية، فإنه بالرغم من أهميتها فإنها تقف الآن، عاجزة عن مواجهة ضغوط عناصر الهوية المجتمعية التي أسهمت بشكل لافت في انتشار المد الشعبوي في أمريكا وأوروبا على حد سواء، الأمر الذي يفسِّر إلى حد بعيد التراجع الذي نلقاه على مستوى التمسك بالقواعد الديمقراطية داخل العديد من المجتمعات الغربية.
وقد مثل انتخاب دونالد ترامب، رئيساً لأعظم دولة في العالم، ذروة هذا التراجع الذي باتت تشهده الممارسة الديمقراطية الغربية، كما أكد هذا الانتخاب أن الشعوب عندما تجد نفسها مجبرة على الاختيار ما بين القيم الديمقراطية والهوية الثقافية للمجتمع، فإنها لا تختار بالضرورة القيم الكونية القائمة على التعددية والتسامح واحترام الآخر المختلف.
وبالتالي، فإن العديد من المتابعين للشأن الأمريكي، يذهبون إلى أن التزايد الملفت للنظر في حدة السلوك العدواني للرئيس الأمريكي، واستخدامه المتزايد للألفاظ والعبارات المتداولة في الأوساط التي توظف لغة العنف، كلما تم التضييق عليه من قبل المحققين، لا يعبّر عن سلوك شخصي معزول، ولكنه يُفصح عن عودة غير مسبوقة للتمثلات السياسية القائمة على عنصري الفحولة والشدة في التعامل مع الخصوم.
وقد وصف ترامب في هذا السياق، من يقبلون التعاون مع العدالة الأمريكية في التحقيقات المتصلة بالفضائح التي تعصف به، بأنهم أشخاص يقومون «بقلب معاطفهم» وبتغيير مواقفهم، ويلعبون دور المخبرين من أجل الحصول على أحكام قضائية مخففة، وهي ألفاظ مستعملة في قاموس الجماعات التي تمجِّد ثقافة العنف.
إن الذاكرة الجماعية التي تشكلت عبر التاريخ الأمريكي خلال 3 قرون، ما زالت مثخنة بمشاهد العنف والدماء سواء خلال الحرب الأهلية أو أثناء محاولة المستعمرين البيض الاستيلاء على مناطق تابعة للسكان الأصليين في وسط وغرب الولايات المتحدة.
ويمكننا أن نزعم في الأخير، أن إعجاب مناصري الرئيس ترامب «بصراحته» التي تلامس حدود القسوة، وتصل في أحايين كثيرة إلى مستوى الاستفزاز، تفصح عن وجود حالة مجتمعية عامة باتت تضيق ذرعاً بالتنوع العرقي والديني والثقافي الذي صنع ما يسمى بالحلم الأمريكي؛ الأمر الذي يفسِّر تزايد انتشار المد الشعبوي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، على حساب القيم الديمقراطية التي سمحت بإلغاء الرق والعبودية، وظلت تمثل طيلة عقود من الزمن، الرهان الكبير الذي تأسست عليه وحدة الشعب الأمريكي، وكأننا بتنا أمام مشهد تحفر فيه الديمقراطية قبرها، وفق تعبير «جاك أطالي».

hzaoui63@yahoo.fr

زر الذهاب إلى الأعلى