الولايات المتحدة: تاريخ من الحروب
تأليف: توم إنغلهارت
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
شهدت الولايات المتحدة عبر تاريخها الكثير من الحروب الدموية، إلا أن أشدها كان بعد 11 سبتمبر، حيث فتحت أبواب الجحيم على العالم، بغزو العراق وأفغانستان، ولعبت دوراً كبيراً في الفوضى الحاصلة في الشرق الأوسط، كما يرى مؤلف هذا العمل، الذي يتطرق إلى عرض هذا التاريخ، والدور الأمريكي القادم في العالم.
يرى الكاتب توم إنغلهارت أن الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من أنها تملك جيشاً جراراً أكثر قوة، وأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية، وأفضل تمويلاً من أي قوة أخرى على هذا الكوكب، إلا أنها في العقد ونصف العقد الماضي من الحرب المستمرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط الكبير وأجزاء من إفريقيا لم تفز بشيء. في رأيه، لم تسهم حروبها التي لا نهاية لها إلا في خلق عالم أكثر فوضوية.
يأتي هذا الكتاب في 180 صفحة من القطع المتوسط في ثمانية فصول هي: أين مضى القرن الأمريكي؟، إمبراطورية الفوضى، انتخابات من الجحيم، صناعة أمة منبوذة، بلاد في مستنقع، شهر عسل الجنرالات، تفجير الركام، أمة غير قائمة على الحرب، العبث من خلال الدخان في 2025.
انتشار الفوضى
في هذا الكتاب الذي استعان فيه الكاتب بمحررين ومعلقين من الموقع الذي أنشأه ويديره «توم ديسباتش» منذ 2016، تركز كافة فصوله على دولة تصبح مع الأيام غير مستقرة ومتغيرة بفعل الحروب المنتشرة، حيث على الأقل نصف مواطنيها، في أفضل الأحوال، ينتبهون لذلك. وعلى وجه التحديد، كان انتخاب دونالد ترامب علامة على كيف أن الإحساس الأمريكي بالانحدار تعزز في الداخل الأمريكي في عهد صعود الدولة الأمنية القومية. ولا عجب أن هذا الإحساس جلب ترامب معه إلى سدة الرئاسة، وذلك ضمن تكاليف الحروب الأمريكية التي توجب على الشعب دفعها.
يقول الكاتب: «في الواقع، تكاليف الحروب الأمريكية، التي لا تزال تنتشر في عهد ترامب، لا يمكن أن تعد وتحصى. فقط انظروا إلى صور المدن التالية: الرمادي أو الموصل في العراق، الرقة أو حلب في سوريا، سرت في ليبيا، أو ماراوي في الفلبين، كلها في دمار عقب ردود فعل واشنطن التي انطلقت بعد 11 سبتمبر، 2001.
ويتساءل الكاتب: «وكيف تستطيع حتى أن تضع دولارات على التكاليف البشرية الأكبر لهذه الحروب: مئات الآلاف من الموتى؟ عشرات الملايين من الأشخاص نزحوا في حدود بلادهم وخارجها، حيث أصبحوا لاجئين يعبرون الحدود على مرأى الأبصار؟ كيف يمكن أن تحلل الطريقة التي اقتلعت بها حشود الناس من موطنها في الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا، ولا يجدون السكينة والاستقرار في أجزء أخرى من الكوكب؟ ساعد وجودهم (أو بشكل أكثر دقة الخوف المتزايد منهم)، على سبيل المثال، على شحن المجموعات المتنامية من الحركات الشعبوية اليمينية التي تهدد بتمزيق أوروبا. ومن يستطيع أن ينسى دور هؤلاء اللاجئين في صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة؟ ما الذي يمكن أن يكون في النهاية كلفة ذلك؟»
القرن الأمريكي
يبدأ الكاتب الفصل الأول من العمل بالحديث عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وما قاله عن الدور الأمريكي في العالم قائلاً: «أقر فلاديمير بوتين: الولايات المتحدة تبقى القوة العظمى الوحيدة في الكوكب، كما كانت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991. وقال الرئيس الروسي في يونيو 2016: أمريكا قوة عظمى. اليوم، ربما هي القوة العظمى الوحيدة. نقبل بذلك».
ويضيف الكاتب تعليقه قائلاً: «الولايات المتحدة هي القوة العظمى الافتراضية في عالم متمرّد أكثر من أي وقت مضى. قبل خمس وسبعين عاماً، على حافة حريق عالمي بين الإمبراطوريات والقوى العظمى المتخاصمة، كان الصحفي الأمريكي هنري لوس أول من اقترح أن القرن التالي يمكن أن يكون لنا. ففي فبراير 1941، كتب مقالاً شهيراً بعنوان: «القرن الأمريكي» في مجلته «لايف» أعلن فيه أنه إذا ما كان الأمريكيون يرغبون في التفكير بشكل دولي، ويتوجهون إلى العالم، ويقبلوا أنهم كانوا في حرب سابقاً، حينها السنوات المائة القادمة ستكون لهم. فقط بعد تسعة أشهر فقط، هاجم اليابانيون الأسطول الأمريكي في القاعد البحرية بيرل هاربور، وأدخلت البلاد في حرب عالمية ثانية. في ذلك الوقت، على العموم، كان الأمريكيون في حالة من التشوش والتمزق حول كيفية التعامل مع الصراعات الإقليمية المنتشرة في أوروبا وآسيا، إضافة إلى صعود الفاشية والنازية.
تلك اللحظة كانت مرعبة، ومع ذلك كانت فقط نسخة مضاعفة مما قد ذهب من قبل. بالنسبة لنصف الألفية السابقة، كان من النادر أن تكون هناك لحظة لا توجد فيها قوتان أوروبيتان (أو ثلاث) في حالة نزاع، وغالباً ما يكون مسلحاً وعنيفاً، وذلك لأجل الهيمنة والتحكم بالأجزاء المهمة من الكوكب. على مدى العديد من القرون، صعدت وسقطت القوى العظمى، وظهرت دول جديدة منها ألمانيا واليابان على الساحة العالمية، وخاضت حروباً لأجل فرض هيمنتها. في تلك العملية، انطلق سباق التسلح العالمي الحديث ليخلق أسلحة متقدمة لم يسبق لها مثيل بالاستناد على الاختراقات الحديثة في علوم الحروب. بحلول أغسطس 1945، قاد هذا الأمر إلى إطلاق شكل مرعب من الطاقة الأولية في الاستخدام الأول للأسلحة النووية في زمن الحرب.
في السنوات التالية، نمت قوة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وامتلكت القوتان قدرات تدميرية يمكن أن تبيد ليس فقط العدو على ساحة المعركة، أو أسطولاً حربياً في البحر، بل يمكن أن تبيد كل شيء. في سنوات الحرب الباردة التي قاربت نصف قرن، أصبحت الخصومة بين القوتين مروعة في طبيعتها، إلا أن ترسانتهما النووية بلغت نسباً متوحشة. ونتيجة لذلك، باستثناء أزمة الصواريخ الكوبية، تواجهت القوتان بشكل غير مباشر في حروب «محدودة» بالوكالة، خاصة في كوريا والهند الصينية، وكانت ذات ضراوة تكنولوجية لا تضاهى.
ثم في عام 1991، تفكك الاتحاد السوفييتي، ولأول مرة في تاريخ الذاكرة البشرية، كانت هناك قوة واحدة في العالم. كان هذا الأمر واقعياً، ربما حتى هنري لوس وجده بعيد المنال. في السابق فكرة أن تتحكم قوة واحدة بالعالم كانت محض خيال تتركز في القصص الأسطورية والخرافية عندما يسود الشر.
فتح أبواب «الجحيم»
يشير الكاتب إلى أن «صراعات أمريكا التي لم تنته في القرن الواحد والعشرين أثارتها قرار جورج دبليو. بوش وكبار موظفيه الذين عرّفوا على الفور الهجوم على البنتاغون ومركز التجارة العالمي من قبل مجموعة صغيرة من الارهابين بأنها «حرب»، ثم أعلن عن «حرب عالمية على الإرهاب»، ثم القيام بعد ذلك بغزو واحتلال أفغانستان أولاً ثم العراق، مع أحلام باحتلال الشرق الأوسط الكبير، وفي النهاية، الكون، كما لم تفعل أي قوة إمبريالية من قبل على مر التاريخ».
ويضيف: «بناء على الأوهام الجيوسياسية المجهدة وإحساسهم بأن الجيش الأمريكي كان قوة قادرة على إنجاز أي شيء يريدونه، أطلقوا عملية كلفت عالمنا الكثير بطرق وأشكال مختلفة لا يمكن إحصاؤها. ومن على سبيل المثال، يمكن أن يضمن مستقبل الأطفال الذين حياتهم، بعد تلك القرارات، ستكون قصيرة ومنكمشة بطرق مخيفة لا يمكن تخيلها حتى؟ من يمكن أن يجد معنى لتجريد ملايين الناس، وخاصة الشبان منهم، في هذا الكوكب من منازلهم، وابتعادهم عن عائلاتهم، وعدم حصولهم على التعليم؟».
ويستمر بقوله: «على الرغم من أن القليلين يتذكرون ذلك، إلا أنني لم أنس على الإطلاق التحذير الذي أطلقه عمرو موسى في 2002، امين عام الجامعة العربية حينها، تعليقاً على غزو العراق، حيث توقع أن سبتمبر «تفتح أبواب الجحيم». وبعد سنتين من ذلك، في أعقاب الغزو الفعلي والاحتلال الأمريكي للعراق غيّر تعليقه قليلاً قائلاً: «أبواب الجحيم مفتوحة في العراق».
إعلان التراجع
يتوقف الكاتب عند رئاسة دونالد ترامب الذي في رأيه تجاوز الخط المسموح للسياسيين الأمريكيين من كل الأحزاب، عندما أعلن شعاره الذي يفيد بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. ويعلق على ذلك: «إنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم يكن بحاجة إلى التزام ليصر على أن الولايات المتحدة، القوة «الوحيدة» العظمى، «استثنائية»، ولا يمكن أن تضاهى، أو حتى عظيمة. كلامه يفيد العكس: إذ إن أمريكا يمكن أن تكون كل شيء سوى أن تكون استثنائية، أو عظيمة أو لا تضاهى، وأنه الوحيد الذي «يمكن أن يجعلها عظيمة» مرة أخرى. في هذا الكلام نجد اعترافاً منه بأن أمريكا لم تعد عظيمة».
ويضيف: «حقاً، دونالد ترامب هو الوحيد الذي أعلن بوضوح ومن دون اعتذار عن التراجع الأمريكي. فالإعلان بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، إنه حقاً اعتراف في شكل من التباهي».
يشير الكاتب في الخاتمة إلى أن كوكب الأرض شهد العديد من القوى الإمبريالية، وكل قوة من هذه القوى ارتكبت العديد من الأعمال المروعة من الإمبراطورية المنغولية التي اجتاح محاربوها بغداد في 1258، ودمروا المكتبات العامة، إلى درجة تحولت مياه دجلة إلى لون الحبر الأسود، والشوارع أصبحت ملونة بالأحمر بسبب الدماء المراقة، وكذلك الأمر من الإمبراطورية الإسبانية التي لم يسلم منها أحد، والنازيين. ويعلق: «بعبارة أخرى، كان هناك تنافس بين القوى الإمبريالية على ممارسة الأسوأ. ومع ذلك لا يمكننا أن نتخيل أن الولايات المتحدة احتلت الرقم الأول في هذه الأفعال والممارسات على مدى التاريخ».
ويذكر أن أفعال السياسة الأمريكية أوضحت أن عبارة «خوض حروب لا نهاية لها في الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا وربما آسيا» باتت كشعار لها، وأن إحراق العالم سيستمر، طالما أن الذهنية نفسها. ويقدم تشبيهاً في ذلك مع روما زمن حكم نيرون، الذي يجد دونالد ترامب نسخة حديثة منه، والأفعال التي عاشتها روما تعيشها واشنطن بشكل غير مباشر.
ويجد أنه من الصعب تقبل حقيقة أن الدولة الأمريكية التي حققت الإنجازات الكبرى، تقوم اليوم بتدمير البيئة التي احتضنت الإنسانية لملايين السنوات، ويشبهها بإمبراطورية الجنون.
نبذة عن الكاتب
** أنشأ توم إنغلهارت موقع (TomDispatch.com)، وهو مشروع ل «ذا نيشن إنستيتيوت»، حيث هو زميل فيه. عمل كمحرر في خدمة أخبار المحيط الهادئ في أوائل السبعينات، وخلال العقود الأربعة الأخيرة كمحرر في نشر الكتب. لمدة خمسة عشر عاماً، شغل منصب كبير المحررين في مكتبة «بانثيون بوكس»، حيث قام بتحرير ونشر أعمال حائزة جوائز، وهو الآن خبير استشاري في «متروبوليتان بوكس»، إضافة إلى كونه مؤسساً ومُشاركاً في مشروع الإمبراطورية الأمريكية، حيث قام بنشر الأعمال الأكثر مبيعاً من قبل تشالمرز جونسون، وأندرو باسيفيتش، ونعوم تشومسكي، ونيك تورس وغيرهم. كان أيضاً زميل تدريس في كلية الدراسات العليا للصحافة في جامعة كاليفورنيا- بيركلي. له العديد من المؤلفات منها كتاب «ولايات الخوف المتحدة» و «حكومة الظل» و «طريقة الحرب الأمريكية».