مقالات عامة

بريطانيا وتحديات الأمن الأوروبي

الحسين الزاوي

عادت المسألة الأمنية في أوروبا إلى الواجهة خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، لتطرح مرة أخرى أسئلة جدّية بشأن قدرة الاتحاد الأوروبي على اعتماد سياسة دفاعية وأمنية مستقلة عن الحليفين التقليديين الولايات المتحدة وبريطانيا؛ وبدا واضحاً لأغلب المتابعين للأحداث الدولية أن المملكة المتحدة تريد أن تربط مسار مفاوضات البريكست، بالمسائل الأمنية داخل القارة، وتسعى إلى الحصول على تنازلات من بروكسل بشأن القضايا الاقتصادية الخلافية، مقابل مساعدة أوروبا على ضمان أمنها في مواجهة التحديات التي تواجهها شرقاً مع الجار الروسي، وجنوباً على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وترى دول أوروبا الغربية، وفي مقدمها فرنسا وألمانيا، أن حكومة حزب المحافظين في بريطانيا، تلجأ إلى تكتيك سياسي واضح، تسعى من خلاله إلى ابتزاز شركائها الأوروبيين الذين يواجهون مخاطر أمنية جسيمة وغير مسبوقة، وذلك بغرض استكمال خطوات البريكست بشكل لا يؤثر في مصالحها التجارية مع المؤسسات الأوروبية في بروكسل. ومن الواضح بالنسبة لبرلين وباريس، أن لندن تعمل بمعية حليفتها الكبرى واشنطن، على إبقاء القارة العجوز مرتبطة بالمنظومة الأمنية الأطلسية التي تتحكم واشنطن في آلياتها وعناصرها الداخلية بشكل كامل.
وجاءت تصريحات تريزا ماي أثناء مشاركتها في فعاليات مؤتمر الأمن بمدينة ميونيخ الألمانية يوم السبت 17 من شهر فبراير/‏ شباط الجاري، لتؤكد هذا التوجه البريطاني الهادف إلى ربط الملف الاقتصادي بالملف الأمني خلال الجولات القادمة من المفاوضات مع بروكسل؛ حيث قالت إنه لمن العاجل بالنسبة للطرفين التفاوض بشأن إبرام اتفاق تعاون أمني تفضيلي، تحسباً لمرحلة ما بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد بداية من 29 مارس/‏ آذار 2019، وإلا سيكون أمن كل المواطنين الأوروبيين مهدداً.
ويمكن القول بناءً على ما تقدم، إن مسار الأحداث السياسية في أوروبا منذ تصويت البريطانيين على البريكست، يثبت صحة كل التحليلات التي ذهبت إلى التأكيد أن ماي، تعمل على جعل الاتفاق الأمني مقدمة لإبرام الاتفاق الاقتصادي التفضيلي الذي تشهد المفاوضات المتعلقة ببنوده تعثراً وصل مؤخراً إلى حد الانسداد، نتيجة عدم قدرة لندن على حسم خياراتها بشأن مستقبل العلاقات التجارية مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ ويتساوق كل ذلك مع الانتقادات التي سبق أن تعرضت لها لندن من قبل شركائها الأوروبيين، بسبب ما قيل إنه محاولة لاستثمار هواجس ومخاوف أوروبا الأمنية، خدمة لأجندة بريطانيا التفاوضية.
وليس من قبيل المصادفة بالتالي، أن يتزامن هذا التحرك الدبلوماسي البريطاني مع التحفظات الأمريكية التي سبق أن عبّرت عنها واشنطن في شهر ديسمبر/‏ كانون الأول الماضي، بشأن استراتيجية بروكسل الجديدة، الساعية إلى تحقيق استقلالية أكبر للدول الأوروبية عن واشنطن ولندن بشأن المسائل المتعلقة بالأمن والدفاع؛ حيث ترى إدارة البيت الأبيض أن المشروع الأمني الأوروبي يمكنه أن يدخل في تعارض مع مشاريع وأهداف حلف الناتو، وبخاصة أن مخطط «التعاون الهيكلي الدائم» الذي جرى تفعيله خلال السنة الماضية من طرف 25 دولة أوروبية، يدعو إلى إقامة تعاون أوروبي وثيق فيما يتعلق بتطوير الصناعات العسكرية الأوروبية، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر مستقبلاً في الصناعات العسكرية الأمريكية التي تقوم بتصدير قسم كبير من معداتها الحربية نحو الدول الأوروبية التي يعتمد بعضها على منظومة السلاح الأمريكي بشكل شبه مطلق.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن مؤتمر ميونيخ للأمن، مثّل في طبعته الأخيرة، مناسبة جديدة لكل من ألمانيا وفرنسا، اللتين تعملان حالياً على تطوير مشروع مشترك لتصنيع الدبابات والطائرات المقاتلة، من أجل المطالبة بتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا اتجاه واشنطن؛ لاسيما أن هذه الأخيرة، تسعى من جانبها إلى الضغط على بروكسل، انطلاقاً من الملفات المتعلقة بالسياسة الدفاعية والأمنية لدول الاتحاد. وقد دفعت هذه الأجواء المشحونة، وزيرتي الدفاع الألمانية والفرنسية، إلى التدخل جنباً إلى جانب في أشغال هذا المؤتمر، لتؤكدا حرص بلديهما على تحقيق هذه الاستراتيجية الدفاعية الهادفة إلى التحرر من الوصاية الأمريكية، ومن الضغوط المالية التي يسعى حلف الناتو إلى ممارستها على أعضائه الأوروبيين.
وعليه، فإنه وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد، لن يتبقى أمام لندن وواشنطن سوى الضغط على دول أوروبا الشرقية من أجل المحافظة على التبعية الحالية للاتحاد الأوروبي فيما يخص مواجهة الاستحقاقات الأمنية، لاسيما أن القوة العسكرية لكل الدول الأوروبية، تظل متواضعة إذا ما قورنت بالقوة العسكرية الضاربة المتوافرة لدى الجيشين الأمريكي والبريطاني. ومن المتوقع أن تظل لندن مؤثرة في المشهد الأمني الأوروبي على مدى السنوات المقبلة، بالرغم من التحفظات التي تبديها ألمانيا وفرنسا، اللتان تسعيان إلى جذب مزيد من رؤوس الأموال الأوروبية من أجل دعم الصناعات العسكرية في بلديهما.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى