بناء الصين: رؤى متضاربة
تأليف:موبو غاو
ترجمة وعرض:نضال إبراهيم
من الخوف والقلق، إلى الاحتفاء، أثار صعود الصين مجموعة متنوعة من الاستجابات في جميع أنحاء العالم. في ضوء هذه الظاهرة، يتتبع مؤلف هذا العمل الكيفية التي يتم من خلالها إنتاج فهمنا للصين، من الغرب إلى الشرق، ويستقصي آليات إنتاج هذه المعرفة عن طريق دراسة قضايا مثل التنوير الصيني الجديد والنيوليبرالية والمصلحة الوطنية، والقفزة العظيمة للأمام والثورة الثقافية، وبحر الصين الجنوبي، ويسأل: كيف بنيت الصين المعاصرة في أذهاننا؟
يقدّم كتاب موبو غاو «بناء الصين: رؤى متضاربة حول الجمهورية الشعبية» دراسة مفصلة للوسائل التي يُنتج من خلالها إنشاء معرفتنا بالصين. في كتابه، لا يسلّم الكاتب والأكاديمي الصيني-الأسترالي موبو غاو بالإحصائيات والنتائج التجريبية التي تقدّمها المصادر الغربية، كما يتحدى الافتراضات الثنائية القائمة على الديمقراطية الليبرالية الغربية والسلطوية الصينية. ويشرح الأجندة السياسية والإطار المفاهيمي الذي يستخدمه المعلقون الغربيون على الشأن الصيني، من اليمين واليسار على حد سواء، ويحثهم على تبني نظرة نقدية جدية لأفكارهم ودوافعهم.
يعدّ هذا الكتاب الصادر في مايو(أيار) 2018 عن منشورات «بلوتو برس» في 288 صفحة موزعة على مقدمة و11 فصلاً، تتمة لكتابه السابق «الصراع على ماضي الصين: ماو والثورة الثقافية» (الصادر أيضاً عن منشورات بلوتو عام 2008). وبحسب الكاتب، فقد استغرق عقداً كاملاً في إنجاز كتابه الجديد، وأعاد خلال هذه السنوات العشر قراءة أفكاره بشكل نقدي ليخرج بالمقولات التي يطرحها في دراسته.
الصراع على ماضي الصين
سبق للكاتب أن شدّد في كتابه السابق، «المعركة على ماضي الصين»، على أنه «بالنسبة للعديد ممن هم خارج الصين، خاصة أولئك الذين نشؤوا مع تقاليد فكرية غربية، فإن الصين تعدّ لغزاً؛ وتعتبر مكاناً مختلفاً إلى درجة أن زيارته للمرة الأولى غالباً ما تكون أشبه بالصدمة الثقافية. لكن على الجانب الآخر، وللمفارقة، فإن الشبه المتزايد للصين مع العالم المتطور بات ينظر إليه على أنه تهديد. ولكثيرين ممن هم داخل الصين، وبرغم ثورات ماو، فقد كان الغرب يعدّ لما يزيد على قرن ونصف القرن معياراً حضارياً ليس للتقدم المادي فحسب، وإنما للتطور الروحي والشخصي أيضاً».
ويتطرق الكاتب للفكرة السائدة عن الصينيين أنهم مركزيّو الفكر ومتشددون تجاه هويتهم في مواجهة الآخر، ويلقي باللوم على الدور الكبير والفاعل الذي تلعبه وسائل الإعلام الغربية في تسويق هذه الصورة النمطية وتكريسها لدى الغربيين، ويرى أن هناك ثغرات كبيرة في فهم الصين وآليات إنتاج هذا الفهم.
ومن هنا، يمكن ملاحظة الأرضية المشتركة التي يقوم عليها الكتابان. وقد سبق للكاتب أن أشار في مقالات عديدة له أنه إذ يكتب عن هذه المرحلة من التاريخ الصيني، فإنه معنيّ بالكتابة عن «الأشخاص العاديين في فترة غير عادية»، وهو يرى أن السلطات الصينية بعد ماو كانت تجهد لإيصال رسالة للناس داخل الصين وخارجها أن «الثورة الثقافية كانت أشبه ب هولوكوست لعشرة أعوام، وأن الاقتصاد الصيني قد وصل إلى حافة الانهيار خلال تلك الفترة».
الحق في المعرفة
في مقدمة الكتاب، يقول المؤلف: «في يونيو 2016، خلال مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الذي كان في زيارة رسمية لكندا، طرحت صحفية كندية سؤالاً يتعلق بحقوق الإنسان، ففقد وانغ هدوءه وردّ بغضب واضح قائلاً: إنه لا يحق للصحفية أن تطرح مثل هذا السؤال ما لم تكن «تعرف» الصين. وفي الوقت الذي وجّه فيه الوزير الصيني اتهامه للصحفية الكندية بأنها، شأن الإعلام الغربي عموماً، متعجرفة. فإن وسائل الإعلام الغربية تلك ووسائل التواصل الاجتماعي وجّهت الاتهام ذاته للوزير.
ينطلق الكاتب من هذه الحادثة المحددة، ليوضح أن المسألة هنا لا تتعلق بمسألة إنتاج المعرفة فحسب وإنما ب «الحق في المعرفة» أيضاً، وهذا مرتبط بالتاريخ كما يرى الصينيون.
ويشير إلى أن الصين بلدٌ تعرّض للاحتلال والاستغلال والنهب، ولهذا، فإن الصين لا تمتلك «الحق الخطابي» على الساحة الدولية. ولهذا، باتت الصورة مشوشة، ولم يعد معروفاً تماماً كيف يمكن التمييز بين الصواب والخطأ، بين الجيد والسيئ. كما أن هناك أفكاراً جوهرية باتت مفروضة من الغرب. للحق المعرفي تقليدان في الصين: واحد تقليدي وآخر ماويّ. التقليد الماويّ المعاصر صاغه ماو بنفسه، بشكل أنه «لديك الحق في الحديث عن شيء طالما أنك لم تقم بأي بحث فيه».
شوفينية أم مشروع سياسي؟
يتابع الكاتب بالقول إنه عبر معالجة مسألة كيف تنتج المعرفة في الصين بغاية محددة ولمتلقّين (مستهلكين) محددين، فإن الكتاب يريد مناقشة فكرة أنه في النظام الدولي الذي يتبنى أفكار العدالة والجور الواقع على الدول النامية، فإن على الراغبين في تحدي النظام القائم أن يتعاملوا مع فكرة الدولة ككل. وبهذا السياق، فإن القومية الصينية، وبخاصة القومية الصينية في عهد ماو، ليست إثنية صينية أو شوفينية صينية، وإنما مشروع سياسي لمواجهة النظام الدولي الواقع تحت السيطرة الغربية. وبهذا فإنها ليست قومية في ذاتها، وإنما استقلال سياسي واقتصادي.
كما أن الكتاب معني بعرض بعض ملامح إرث الثورة الصينية التي يتم استعادتها باستمرار ضمن الجدل المتعلق بمناقشة السياسة الصينية الداخلية وعلاقتها مع العالم الخارجي. كما يهدف الكتاب لمناقشة فكرة أن الديمقراطية في مواجهة السلطوية ليست مجالاً بحثياً مفيداً، ولا غاية سياسية مفيدة.
ويشدد الكاتب على أنه إذا ما أراد اليسار في الغرب إيجاد سردية جديدة للعرق البشري على هذا الكوكب، فإن ثمة الكثير من النماذج الفكرية المفاهيمية التي ينبغي تفكيكها وإعادة تركيبها مجدداً، وبالتالي فإن (إنتاج) معرفة الصين في جوهر هذه المسألة.
دور اليسار الغربي
وبالنظر لسيطرة القوى الغربية في المجالات كافة؛ السياسية، العسكرية، التقنية والنظم المفاهيمية في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، فإن إنتاج المعرفة عن الصين هي عملية «غربية» في المقام الأول، داخل الصين وخارجها. وفيما لا ينكر الكاتب دور الخطاب الذي تقدمه وسائل الإعلام الغربية الرئيسية وما يقدمه من قيمة ومنظور فكري، إلا أنه يريد التوصل إلى فكرة أنه يمكن الحصول على هذه المعرفة من عدة أطر فكرية مختلفة باتجاهات متنوعة. وهو ما يحاول الكتاب إثباته؛ إيجاد البديل للعملية الغربية (أو المحكومة بالمنظور الغربي، سواء اليميني أو اليساري) في إنتاج المعرفة.
يبتغي الكاتب تفكيك هذه النماذج الفكرية، وتحليل آليات إنتاج المعرفة القائمة على موقف سياسي مسبق. كما يركز على ضرورة أن يعيد اليسار الغربي التفكير في وظيفته وأن يتخذ موقفاً نقدياً ليس تجاه المصالح عبر الوطنية (المتخطية لحدود الدولة) التي يفيد منها فحسب، وإنما بالموقف التفضيلي عبر فرض الأجندة الفكرية والتصحيح السياسي خاصة في العلاقات مع الدول النامية والصين.
وبحسب رؤيته، فإن ثمة أربع حقائق، على الأقل، يمكن استخلاصها من هذه العلاقة المعقدة في بناء المعرفة: (1) في أية دولة/أمة، قد يكون هناك نوع من المصلحة المشتركة للجميع؛ ضد الغزو الخارجي مثلاً. (2) يمكن للمصالح الوطنية والمصالح التي تتجاوز الحدود الوطنية أن تتداخل، ويمكن أن تتطابق لدى الناس من جميع الطبقات في الدول الغربية الرائدة بسبب التاريخ الاستعماري. (3) يمكن أن تكون، لكن ليس دائماً، المصالح الوطنية والتي تتجاوز الحدود الوطنية للنخبة الحاكمة في الدول النامية، و(4) يعمل موقف النخبة النيوليبرالية الصينية في دعم النموذج الفكري لعالمية حقوق الإنسان والديمقراطية في صالح النظام عبر القومي القائم، لكن ضد مصالح الطبقة العاملة في دولهم.
الصين ومنهجية الاستشراق
أما مهمة فهم الصين من وجهة نظر الاستشراق الذي طوّره إدوارد سعيد، فقد اضطلع بها أساتذة ودارسون متخصصون في الدراسات الصينية مثل عارف ديرليك (1996)، هانس هاجردال (1997) و ديفيد مارتينز-روبلز (2008).
ويشير الكاتب إلى كتابين وثيقي الصلة بهذا الموضوع، ومستلهَمان من منهج الاستشراق: «صور غربية عن الصين» للباحث الأسترالي كولن ماكراس (1989) الذي يقدّم مسحاً تاريخياً للطريقة التي نظر بها الغرب إلى الصين. وكتاب «(صينيّات) دراسات صينية: كتابة الصين» ل إريك هايو، هون سوسي وستيفن ج. ياو (2008)، والذي وإن لم ينتهج الخط الفكري لدراسة الاستشراق، إلا أنه يقدم أكثر من صين واحدة مكتوبة بنصوص مختلفة، ويغطي أطواراً زمنية عديدة وتمثيلات فكرية متنوعة.
تجاذبات الداخل والخارج
في إطار العلاقة بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية والتجاذبات الحاصلة والتأثير في موقف الصين كفاعل ومتلقّ للفعل، يرى الكاتب أن الصين لم تكن عدائية (أو عنفية) في سياساتها الخارجية أو وحدوية في توجهاتها إزاء النزاعات الحدودية. وذلك عائد بالدرجة الأولى لحرصها على تحقيق أمنها الاستراتيجي. ومع ذلك، فإن هذه الخلاصة، التي يتوصل إليها بعد دراسة مستفيضة على صفحات الكتاب، لا تستثني التغيير في السياسة الخارجية كنتيجة للسياسات الداخلي، السياسات ليس بالمعنى المرتبط بالنخبة من جهة المنظومة الفكرية. وقد ذكرت، مثلاً، أن العلاقة بين اليابان والصين قد ساءت بعد أن استبدلت الفئة الطبقية للشعب الياباني بالفئة الهوياتية أو الإثنية التي تزامنت مع الخوف من صعود الصين. وبالتالي فإن المقولة التي تدّعي أن السياسة الصينية إنما تأثرت هامشياً، إذا ما تأثرت فعلاً، بالسياسات المحلية الداخلية أو التحزب النخبوي هي صائبة وإن جزئياً. ربما لم تتأثر طريقة الصين في التعامل مع جيرانها بشأن التسويات الحدودية كثيراً بالسياسات النخبوية، لكن السياسات المحلية بتوجهاتها الإيديولوجية تؤثر، دون شك، في السياسات الخارجية والقضايا الحدودية.
كما يخلص الكاتب إلى ضرورة فهم السياسة الخارجية الصينية للدفاع الاستراتيجي والتنازلات التكتيكية في مواجهة الكيفية التي تتعامل بها القوى الأخرى مع الصين. فمن الصائب إدراك أن الصين ستتعامل مع بقية العالم بكيفية مماثلة للتي سيعاملها العالم بها.
وبحسب الصحفي وصانع الأفلام الوثائقية جون بيلغر الذي أنجز الوثائقي المهم «الحرب القادمة مع الصين» (2006)، فإن هذه الحرب تصممها الولايات المتحدة منذ سنوات، ومما لا شك فيه أن المجمعات الصناعية الحربية الأمريكية تعمل وفق سياسة ممنهجة، وهنا يكون حرياً بنا النظر إلى السياسات الموجهة نحو الصين، ومضامين هذه السياسات وما تخفيه من صراعات مستقبلية.
إن صعود الصين، أو عودة الصين إلى الساحة الدولية هي ظاهرة ذات أهمية غير مسبوقة تثير القلق، والخوف حتى، على مستوى العالم. إذ إنه ثمة حقيقة تميز الصين اليوم عن أي دولة أخرى في العالم، فهي تعدّ اليوم دولة غريبة بالنسبة لعالم تم «تغريبه» لمئات السنين، وبالتالي فإن «التهديد» الذي تمثله أكبر مما تفعل روسيا (التي هي جزء من التاريخ الأوروبي منذ مولدها) أو يفعل الإسلام، الذي هو أيضاً جزء من التاريخ المتوسطي منذ ولادته. ويخلص الكاتب بعد استعراضه العديد من النقاط الجدلية التي تمثّل العلاقة بين الصين – داخلياً وخارجياً والصين مع بقية العالم إلى أن تبرير توظيف وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، من بين عوامل غربية أخرى، لتصوير الصين بشكل مغلوط وممنهج، قد يؤدي إلى بناء صين هجومية تدافع عن الصورة العنيفة بعنف مقابل.
نبذة عن الكاتب
* ولد البروفيسور الصيني-الأسترالي موبو غاو عام 1952 في قرية بمقاطعة جيانغشي الصينية. في بداية الثورة الثقافية، عمل مدرساً في مدرسة قروية، ثم استبعد وأخضع لجلسات نقد ذاتي. سافر عام 1977 إلى لندن وتخرج في جامعة إسكس، تخصص في اللغة والثقافة الصينية وعمل أستاذاً زائراً في جامعة أكسفورد في بريطانيا وهارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية. هاجر إلى أستراليا في عام 1990 وأصبح محاضراً في جامعة أديلايد.