تحولات الزمن السياسي العربي
الحسين الزاوي
عرف الوطن العربي، خلال أكثر من عقدين من الزمن، تحولات سياسية كبرى، أدت إلى إحداث تغييرات عميقة وغير مسبوقة على مستوى بنية المجتمعات العربية من جهة، وعلى مستوى النظام السياسي في معظم الأقطار العربية من جهة أخرى. وأسهمت هذه التحولات بحدوث تراجع كبير في مقومات الأمن القومي العربي المشترك، وباضطراب العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة الوطنية، وتزامن كل ذلك مع بروز أزمة حادة تتعلق بالهوية السياسية والثقافية في الدول العربية، التي شهدت حراكاً مجتمعياً لافتاً، وتغيرات فجائية في نسق ممارسة السلطة؛ وذلك في ظل انتشار كبير لبؤر التوتر، وانعدام الاستقرار مشرقاً ومغرباً.
كما أسهمت هذه الأجواء السياسية العاصفة في السياق نفسه، في انتشار قوى الإسلام السياسي، وفي تحوّل بعض هذه القوى، إلى تنظيمات مسلحة عملت على إسقاط أنظمة الحكم، مستغلة في ذلك الضعف المؤسساتي، الذي لحق بمنظومة الدولة الوطنية؛ بسبب الأجندات الدولية المرتبطة بسياسة العولمة، التي استطاعت أن تستثمر مناخ الصراعات الداخلية والإقليمية لمصلحتها؛ من أجل إعادة النظر في الخريطة السياسية العربية، التي تشكلت في النصف الأول من القرن الماضي. وقد حدثت كل هذه التحولات الإقليمية في سياق تطورات جيوسياسية عالمية كبيرة؛ تميزت، بعودة منطق استعمال القوة في العلاقات الدولية، وبتآكل الاتفاقات الإقليمية بين الدول، فضلاً عن إعادة تشكيل جديد على مستوى الأنساق السياسية الموروثة عن مرحلة الحرب الباردة.
وقد بدأت ملامح هذا المشهد السياسي المُطَرِب في البروز بشكل جدي خلال العشرين سنة الماضية؛ بعد إقدام صدام حسين على اجتياح الكويت، مع بداية بروز مظاهر الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة، وأحدث هذا السلوك السياسي الطائش أول شرخ كبير على مستوى معادلة الأمن القومي العربي المشترك. وتطورت الأحداث لاحقاً وبشكل سريع، مع تأسيس السلطة الفلسطينية وقيام منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم ياسر عرفات، بتوقيع اتفاقات «أوسلو» مع رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إسحاق رابين سنة 1993؛ وهي الاتفاقات، التي أفضت في نهاية المطاف إلى إفراغ عملية السلام من محتواها، بعد تبخر حلم «حل الدولتين»، وإلغاء معادلة الأرض مقابل السلام، وقام الرئيس الأمريكي في نهاية المطاف، بإطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من بنود هذه الاتفاقات؛ عندما أقدم على الاعتراف بالقدس عاصمة ل«إسرائيل».
أما على مستوى الأوضاع السياسية الداخلية، فقد بدأ مسلسل المأساة، الذي أسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي في الأقطار العربية، مع تطور أزمة نظام الحكم في الجزائر خلال بداية التسعينات من القرن الماضي؛ بعد إقدام الرئيس الشاذلي بن جديد بفتح مجال الممارسة السياسة أمام كل التيارات، بما فيها التيار الديني، وتطورت الأحداث بشكل مأساوي في شكل احتراب داخلي قادته الجماعات الإرهابية المسلحة، وأذكت نيرانه قناة ناطقة باللسان العربي تأسست في الدوحة مع نهاية سنة 1996، وكانت من بين أوائل المنابر الإعلامية، التي فتحت أبوابها للتيارات الدينية على اختلاف مشاربها، وساهمت في الترويج لشعار: «من يقتل من؟» في الجزائر؛ من أجل الإساءة إلى القوى الأمنية في هذا البلد، وتبرئة ساحة المجموعات الإرهابية من مسؤولية إراقة دماء الجزائريين. وشهدت جمهورية مصر العربية في الفترة نفسها تقريباً، مذبحة الأقصر في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1997، التي نفذها تنظيم «الجماعة الإسلامية»، وأسفرت عن مقتل 62 شخصاً، أغلبيتهم الساحقة من السياح الأجانب. وجاء احتلال العراق خلال سنة 2003؛ ليشكل أخطر انعطاف يعرفه مسار تطور الأحداث في المنطقة العربية برمتها؛ حيث أدى الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين إلى حدوث تغيير حاسم في خريطة التوازنات الجيوسياسية في المشرق العربي. وقد نجم لاحقاً، عن الفراغ الأمني والمؤسساتي، الذي تسبب فيه الاحتلال الأمريكي للعراق، انتشار رهيب للفصائل الإرهابية المسلحة، التي شكلت ما أصبح يُعرف الآن بتنظيم «داعش».
واستؤنف مسلسل المأساة العربية في مستهل العقد الثاني من الألفية الجديدة، مع اندلاع أحداث الحراك المجتمعي خلال ما سُميّ «الربيع العربي»، وأسفرت التطورات، التي حصلت على مستوى المشهد السياسي، عن بعض التغييرات الجزئية في تركيبة السلطة في كل من تونس ومصر، وعن انهيار جزئي أو كلي لمؤسسات الدولة المركزية في ليبيا وسوريا واليمن. وكما حدث في التسعينات من القرن الماضي مع الحالة الجزائرية، سعت الأطراف نفسها؛ من خلال تحالفها الجديد مع دول الجوار الإقليمي، إلى استثمار محنة الشعوب العربية؛ من أجل الدفاع عن أجندتها بكثير من الصلف والرعونة بشكل أفضى في نهاية المطاف إلى حدوث فرز حقيقي على مستوى البيت الداخلي لدول مجلس التعاون الخليجي.
بناءً على هذه الوقائع، التي قمنا بعرضها، أن ما حدث من تطورات خلال العقدين الأخيرين يناظر في خطورته وجسامته، ما شاهدته الأمة العربية على مدى قرن من الزمن من الفتن والحروب، وكان وقعها على الذات العربية قاسياً ومؤلماً؛ لأن قسماً كبيراً منها تسبب فيه أبناء جلدة هذه الأمة؛ لأسباب تتعلق بطموحات جيوسياسية قصيرة النظر لا تأخذ في الحسبان المصالح القومية المشتركة لشعوب المنطقة. وخلافاً للعقود الأولى من استقلال الدول العربية عن الوصاية الاستعمارية، التي كانت تتقدم فيها المسائل المتعلقة بالاقتصاد والتنمية سلم أولويات النخب الحاكمة، فإن العقدين الأخيرين شهدا هيمنة غير مسبوقة للمسائل الأمنية والدفاعية على أجندات الأغلبية الساحقة من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ بسبب تحول العديد من دول المنطقة إلى دول فاشلة أو مرشحة للفشل على المدى المنظور.
hzaoui63@yahoo.fr