قضايا ودراسات

تصحير العالم

د. حسن مدن

النسب التي سنوردها أدناه ليست جديدة تماماً، لكنها ما زالت صحيحة من حيث الجوهر والدلالة، وإن طرأ عليها أي تغيير فسيكون لصالح تأكيدها لا نفيها حكماً مما نلحظه ونراقبه في عالم اليوم.
تقول هذه النسب إن نصيب دول الجنوب من الاقتصاد العالمي أقل من 20%، في حين تبلغ حصة الشركات متعددة الجنسية أكثر من 60%، أما النسبة الباقية فهي للدول المتقدمة.
تقول النسب أيضاً إن نصيب الدول الأقل نمواً من الاستثمارات الدولية المباشرة هو أقل من نصف بالمئة من مجموع الاستثمارات الدولية، كما أن خُمس سكان الكرة الأرضية يستهلكون 80% من مواردها، وهذا يعني أن سكان الدول الغنية يستهلكون ستة عشر ضعف ما يستهلكه سكان الدول الفقيرة. وسيفقد أغنياء العالم حوالي 75% من مواردهم، لو تمَّ اعتماد مبدأ المساواة بين سكان الأرض، وهذا طبعاً ما لن يتحقق أبداً، لأن هؤلاء الأغنياء لن يسمحوا به، لكن ذكر هذه الحقائق غايته إظهار أن الطريق نحو المساواة يفترض تخفيضاً كبيراً من مستوى استهلاك البلدان الغنية.
الباحث المغربي محمد بوبكري الذي أورد تلك النسب في أحد مباحثه حذّر مما أسماه ترييف الكرة الأرضية، أما نحن فسنقول: تصحيرها؛ لأن نهج الدول المقتدرة الماسكة بمفاصل القرار الاقتصادي والسياسي في العالم مسنودة بعضلاتها العسكرية الضاربة لن يسمح لمعادلة الغنى والفقر المختلة لغير صالح دول الجنوب أن تتغير.
لم تعد الدول الكبرى بحاجة دائمة لاستخدام تلك العضلات العسكرية إلا في حال الضرورة، وعلى خلاف الصورة التقليدية للكولونيالية التي كانت تحتل البلدان الفقيرة عسكرياً وتلحق سياساتها بها مباشرة، فإن الهيمنة الجديدة تمسك بالمفتاح الاقتصادي لهذه البلدان كي تبقى في حال المراوحة التي هي فيها ولا تفلح في اجتياز الحاجز الفاصل بين الفقر والغنى.
قلنا أمس في سياق حديثنا عن «سترات باريس الصفراء» إن «روشتات» البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باتت بمثابة المقرر الإجباري الذي على كل الدول اتباعه، رغم ما تظهره التجارب من التداعيات المؤلمة لهذه «الروشتات».
سلطة كل بلد في هاتين المؤسستين مرتبطة بحجم اسهاماته المالية فيه، ولأن الأغنى هو الأكثر مقدرة على الدفع، فإنه يحرز سلطة أقوى، وبالتالي تجد البلدان الفقيرة نفسها أسيرة أغنياء العالم الذين يضعونها تحت الوصاية، لأنها لن تقوى ليس فقط على تسديد ديونها، وإنما حتى تسديد أرباح هذه الديون، وستجد نفسها محمولة على تخفيض مستوى معيشة شعوبها، استجابة لشروط الدائنين.

madanbahrain@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى