تونس والفلك الفرنسي

مفتاح شعيب
قد لا يكون هناك اختلاف كبير في التقييم بين المراقبين حول زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تونس، في كونها «تاريخية»، وحملت وعوداً كبيرة لتمتين العلاقة بين البلدين التي تعتبر مستقرة على الدوام، ولكن هناك مرارة لدى التونسيين بسبب أن مستعمرهم السابق وشريكهم الاقتصادي الأول لم يكن عند حسن الظن في السنوات السابقة، ولم يقم بما يفترض أن يقوم به عندما واجهت تونس صعوبات جمة ثمناً للانتقال الديمقراطي الشاق بعد إطاحة النظام السابق.
ماكرون نفسه أقر بأن باريس تقاعست بعض الشيء في الماضي و«بإمكانها أن تفعل المزيد» في المستقبل. وبعدما أثنى على التجربة الديمقراطية، أسقط بعض الديون وأعلن عن استثمارات جديدة، على الرغم من أن التونسيين سمعوا من المسؤولين الأجانب الكثير من وعود الدعم، ولم يصل منها غير القليل. ولكن بعضهم يمكن أن يصدق هذه المرة، لأن الرئيس الفرنسي الجديد يحمل رؤية مغايرة في السياسة الخارجية تقوم على إعادة بلاده إلى الصدارة في أوروبا وإفريقيا، وهو ما عبر عنه مؤخراً في ملتقى «دافوس» بسويسرا. وبالنسبة إلى العلاقة مع تونس، يبدو أن هذه الرؤية الفرنسية تريد أن تكون لها أياد واضحة في إنجاح تجربة هذا البلد في البناء الديمقراطي وفي مجابهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية. كما أن هناك مراهنة من باريس على تونس باعتبارها الأقرب إلى النمط الفرنسي، خصوصاً في المجالات الثقافية والتعليمية. وتعزيزاً لهذا التوجه حظي المجال العلمي بالنصيب الأكبر من الاتفاقيات بين البلدين، منها اتفاق لإقامة جامعة فرنسية تونسية لإفريقيا والمتوسط، فضلاً عن إقامة خمسة مراكز ثقافية مشتركة، بينما يجري التحضير الآن لقمة الفرنكوفونية بتونس عام 2020.
إذا كانت تونس بحاجة فعلية للوقفة الفرنسية ومساعدتها، فإن ما يدور في ذهن ماكرون أكبر من وعود يطلقها في هذا البلد أو ذاك. ومن خلال رصد نتائج الشهور الثمانية التي قضاها في الإليزيه، يتم بسهولة اكتشاف أن هذا الرجل يعمل وفق «واقعية جديدة» تسعى إلى تدارك ما فات وتعيد بناء علاقات فرنسا الخارجية. ومن مبادئ هذه الواقعية توثيق العمل داخل الاتحاد الأوروبي خصوصاً مع ألمانيا بعد الخروج البريطاني. وعكس الدول الأخرى، تسعى فرنسا إلى إنعاش حضورها في الفضاء الفرنكوفوني المشكل أساساً من المستعمرات السابقة، وهو فضاء مهدد بالاختطاف من قوى أخرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. ومن أجل قطع الطريق على المنافسين، شرع ماكرون في استخدام الأسلحة الثقافية الناعمة بالتركيز على نشر اللغة الفرنسية وتعزيز تعلمها وحضورها في الدول ذات الصلة التاريخية بفرنسا، فتونس والجزائر والمغرب والعديد من الدول الإفريقية وغيرها تشترط تغييراً في بعض السياسات الفرنسية منها المعاملة الندية والتخلي عن العقليات القديمة، والمساعدة على مجابهة التحديات في سياق من الشراكة والتعاون المتوازن بين جميع الأطراف. وبإمكان السياسة الفرنسية أن تحقق هذه الأهداف وتصحيح صورتها التي أصابها الكسوف جراء أخطاء الحكومات السابقة. وضمن هذا المسار جاءت زيارة ماكرون إلى تونس وبعدها السنغال، وقبلها ما أعلنه في القمة الأوروبية الإفريقية في أبيدجان. وكانت الفكرة الجوهرية هي التبشير والتمهيد لعودة فرنسية جديدة، وكلمة السر في هذه العودة هي «الفرنكفونية» واستعادة «المستعمرات السابقة» لتعود إلى الفلك الفرنسي بعدما كادت تحيد عنه.
chouaibmeftah@gmail.comOriginal Article