ثقافيات أبعد من الثقافة
عبد اللطيف الزبيدي
قال القلم: في خاطري مبحث ثقافيّ من الوزن الثقيل. قلت: أنصحك بأن تقتطع من جلموده مثقال حصاة، حتى لا يحطه سيل كلامك من عل على الأدمغة، فالقوم بلا خوذات. قال: لقد سبق أن أشرت إلى هذا الموضوع ولم أصرّح به كاملاً. أظن أنه من أهم القضايا التي يجب أن يعكف عليها المفكرون والمثقفون، حتى يفهموا أن الأدب، شعراً ونثراً، أخطر من أن يكون مجرد مادة أدبية. إنه مظهر سلوك ذهنيّ نرى آثاره في جميع الميادين.
قلت: أنت لم تقل شيئاً بعد، ولكن طرقك الباب غلط. ذكرت المفكرين، بينما الفكر مجال عالمنا العربيّ حديث عهد به. لدينا تاريخ «نثريات» فكرية، أغلبها كان يهرب إلى الشعر، المعري نموذجاً. تاريخنا في الفلسفة والفكر، كان طوال القرون الإسلامية، تحت سيطرة قوتين: الفقه والسلطة. كانت للناس مروحة صينية من التهم، أنت وحظك: الزندقة، الكفر، الإلحاد، التجديف (هذا بحر مختلف)، الإرجاف، القائمة طويلة. لذلك تعذر فتح أبواب التفكير في بناء الدولة. لم يكن في الإمكان التفكير في حمايتها بالمؤسسات التي تجعل السلطة قوية بإرادة شعبها، بعدم استغلال النصوص لأغراض تسلطية استبدادية.
قال: هذا همّ أدهى من المبحث الذي خطر لي. كنت أفكر في مأساة ثقافية في تراثنا الأدبيّ، وهي ندرة الأدب الإنسانيّ، جراء غلبة أسماء السباع والسلاح وأجواء الحرب ومصطلحاتها على الشعر الكلاسيكي، حتى في الغزل. كم هي نسبة الأشعار التي تتناول التآخي والتسامح وأن الإنسانية أسرة واحدة. ذلك السلوك الذهنيّ السائد، كان له أثر كبير جهنميّ الخطر عندما ضعفت الدول التي ظلت بلا مؤسسات. بوضوح: صار اللاوعي مقتنعاً بأن القوة هي القانون، فإذا لم تكن ضرغاماً فإن عليك أن تكون الفريسة بلا اعتراض. لا توجد مرتبة بين المتجبر الآكل والضعيف المأكول. في هذا نفي للعدل والحق والقيم، التي تحتاج إلى مؤسسات تنبثق من المجتمع لتحمي الأفراد لكي يهبّوا طوعاً للدفاع عن سيادة الأوطان، ويكونوا هم إرادة الدول. من هذه الزاوية الثقافية، يمكن أن نفهم أسباب الرضوخ لإملاءات أقوياء العالم الظالمة.
قلت: كلام كبير، بل عسير على العقل أن يخالفك في أن مثل هذا السلوك الذهنيّ الذي تجذر في القرون الغابرة، ظل مسيطراً يفصّل نسيج القيم الإسلامية على قياسه، فلما ضعفت الدول، انقادت الأنظمة المنسلخة عن شعوبها، جراء غياب المؤسسات، لحق القوة في الاستيلاء على مقاليد البلدان ومقدراتها، لكن الشعوب في جيناتها فينيق يتجلى في اللحظة المناسبة.
لزوم ما يلزم: النتيجة البيولوجية: مناعة الشعوب فطرة لا اكتساب.
abuzzabaed@gmail.com