درس من إثيوبيا
صادق ناشر
قدم رئيس وزراء إثيوبيا هايلي مريام ديسالين المستقيل من منصبه قبل أيام قليلة، درساً في فهم الناس ومطالبهم، التي رفعوها؛ لتحسين أوضاعهم، التي بدأت تتدهور في الأشهر الأخيرة؛ عندما قبل بالرضوخ لهذه المطالب والاستماع إليها، خاصة بعدما شعر أنه لم يعد بإمكانه تقديم أكثر مما قدمه، فتخلى عن منصبه وتركه؛ كي لا يصطدم بالشارع الغاضب.
عندما رأى ديسالين غضب الجماهير وهتافاتهم المعادية للحكومة ورئيسها، خاصة في الأحداث، التي شهدها إقليما أمهرا وأرومو، وأدت إلى سقوط ضحايا بين قتلى وجرحى، قرر الابتعاد عن طاقمه الرئاسي؛ ليصيغ مفردات خطاب تقديم استقالته، التي أكد فيها أنه «يريد أن يكون جزءاً من الحل»، وأن يرى إثيوبيا قوية، وأشار إلى أنه اتخذ قراره بالتنحي عن السلطة «على أمل أن يساعد على إنهاء سنوات الاضطرابات والقلاقل السياسية»، وزاد: «أرى أن استقالتي حيوية؛ لتنفيذ إصلاحات من شأنها أن تؤدي إلى سلام وديمقراطية دائمين».
لم يلتفت ديسالين إلى ما يمنحه له الدستور من إكمال مدة رئاسته للحكومة، التي وصلت إلى النصف تقريباً، كما لم يلتفت إلى ما يمكن أن يفعله باستخدام القوة تحت عنوان «الحفاظ على الأمن والاستقرار»؛ لأنه يدرك أن الدم إذا سال في حال تمسكه بمنصبه فإنه سوف يتحمل وزره هو لا غيره.
أثبت ديسالين في تصرفه القاضي بتقديم استقالته أنه رجل دولة، وأن قراره ملك نفسه ولا يخشى تبعاته وردود أفعال البطانة من حوله؛ ولأنه في دولة تحترم نفسها ولا تتجاهل أصوات شعبها ثانياً، قدم استقالته وغادر الحكومة، قبل أن تتلوث يداه بدماء الأبرياء.
حطم ديسالين تقليداً متوارثاً في القارة السمراء، التي عُرِفَ عن حكامها بأنهم لا يتزحزحون عن الكرسي إلا بالموت أو بالانقلاب العسكري، مثلهم مثل قادة عرب قتلوا من أبناء شعوبهم مئات الآلاف دون أن يرف لهم جفن؛ بل إنهم مستعدون للتضحية بمئات آلاف أخرى حتى لا يقال إنهم هزموا؛ لكنهم لا يدركون أن هزيمتهم أمام رغبات شعوبهم في التغيير أشرف مليون مرة من البقاء على السلطة على جماجم الأبرياء.
لم يتمسك ديسالين بالسلطة تحت وهم أنه الوحيد القادر على تحقيق طموح الشعب أو أنه مفوض منه، وأنه لابد من إكمال مدته الدستورية، ولم يقل إنه سيهدم الدنيا لو أُجبر على الاستقالة، ولم يقل إن الشعب الإثيوبي سيفتقد إلى الأمن والعيش الرغيد في حال ترك منصبه؛ بل سلم بالأمر الواقع وغادر المنصب؛ لتكون مغادرته لمصلحة الشعب، الذي جاء باسمه ومن أجل خدمته.
تعلمت إثيوبيا من دروس الفترات السابقة، التي دخلت فيها الخضات العنيفة؛ بسبب الصراع على السلطة؛ لكنها اليوم تثبت أنها دولة مؤسسات، وليس فيها أحد كبير بقدر المؤسسات، والخطوة التي أقدم عليها رئيس الوزراء المستقيل ديسالين، دليل جديد على أن العالم يتعلم أن القفز فوق الشعوب لا يأتي إلا بالكوارث والخيبات، كما هو حاصل اليوم في أكثر من دولة عربية.
sadeqnasher8@gmail.com