دروس من الديمقراطية الأميركية
عبدالمنعم سعيد
مضت مدة على وجودي في الولايات المتحدة، وكما هي العادة فإن شهر سبتمبر هو وقت العواصف والأعاصير الكبرى التي تأتي عادة على منطقة الجنوب الشرقي من الدولة.
وأحياناً تزحف على الشمال الشرقي أيضاً، مسببة في أحيان كثيرة دماراً للبشر والممتلكات. وكأن كل ذلك ليس كافياً، فإن عاصفة أخرى ألمت بالنظام السياسي الأميركي كله، فمنذ تولى دونالد ترامب الإدارة في البيت الأبيض وهناك حدث فاقع في موضوع ما يمتلك صفحات الصحف وأثير الإذاعة وكاميرات التلفزيون ومشاهد المواقع الإلكترونية ويوميات التواصل الاجتماعي.
كانت معظم العواصف تمس ترامب شخصياً، أو علاقة روسيا بانتخابات ٢٠١٦ الرئاسية، ولكن هذه المرة كانت العاصفة أكبر من كل ذلك، وإن كان فيها من الإثارة والعنف والشراسة السياسية ما يجعل متابعتها جامعة ما بين أحكام الدستور، والممارسة البرلمانية، والفصل بين السلطات، وأدوار متعددة في فيلم يجمع ما بين الجريمة والسباق السياسي.
الدستور الأميركي يقوم ليس فقط على الفصل بين السلطات، ولكن أيضاً التوازن فيما بينها وأن تحمل كل منها «أثقالاً مضادة» تجعلها تسائل السلطات الأخرى. ولم تكن هناك مصادفة عندما جعل الدستور انتخاب عضو مجلس النواب كل عامين، وعضو مجلس الشيوخ كل ستة أعوام، ورئيس الجمهورية كل أربع سنوات قابلة للتكرار مع الرئيس الواحد لمرة واحدة.
أما عضو المحكمة الدستورية العليا فهو مدى الحياة أو حتى يقرر العضو ذاته إنهاء عمله. الفترات الزمنية المختلفة تجمع ما بين القرب من الجماهير وتمثيلها، وتمثيل الولايات، وتداول السلطة، والحكمة المطلوبة من المؤسسة القضائية العليا في البلاد بحيث لا يهدد القاضي وسلطاته لا سلطة ولا زمن. ولكن اختيار القاضي يتم من خلال الرئيس الذي يسمي مرشحه إلى مجلس الشيوخ (أي ممثلي الولايات) الذي عليه أن يصدق على القرار الرئاسي أو لا يصدق.
ويتم ذلك من خلال مواجهة واختبار من خلال اللجنة القضائية التي تضع تقريرها وتوصيتها أمام جلسة عامة للمجلس الذي بعد موافقته لا يصير بعدها القاضي مسؤولاً أمام أحد إلا ضميره وبقية أعضاء المحكمة العليا. كانت هذه العلاقات المتشابكة هي محور العاصفة الكبرى التي ألمت بالنظام السياسي الأميركي خلال الأيام الماضية.
في شهر يوليو الماضي قام الرئيس دونالد ترامب بتسمية القاضي الفيدرالي «بيريت كافانو» (مواليد ١٩٦٥ خريج كلية الحقوق من جامعة ييل، ومدرس القانون الدستوري في جامعة هارفارد وقاضي في المحكمة الفيدرالية لدائرة مقاطعة كولومبيا، وعمل في الجهاز القضائي للرئيس جورج بوش الابن) لكي يكون قاضياً في المحكمة الدستورية العليا.
ومن ثم يتم زيادة الأغلبية المحافظة في المحكمة من ٥ إلى ٦ قضاة بحيث لا يتبقى لليبراليين أكثر من ٣ وتفقد المحكمة ما كانت تتمتع به من توازن في التوجهات القضائية. تحقيق ذلك كان يعني في السياسة الأميركية أن الثورة المحافظة البيضاء التي بدأت بوصول ترامب إلى البيت الأبيض سوف تكون ثورة دائمة أو على الأقل خلال العقدين المقبلين فلا يوجد مثل المحكمة العليا التي عندها تحسم القوانين وتستقر. وفي هذه الخلفية.
وفي يوم ١٠ يوليو الماضي ورد إلى عضو مجلس الشيوخ «ديانا فنستين»ـ زعيمة الأقلية الديمقراطية ـ رسالة من د. كريستين بلاسي فورد (مواليد ١٩٦٦ وتعمل أستاذة في علم النفس في جامعة بالو آلتو في كاليفورنيا وباحثة نفسية في كلية الطب بجامعة ستانفورد من أهم الجامعات الأميركية) تفيد أنه في صيف عام ١٩٨٢ قام القاضي المرشح مخموراً بالتحرش بها، وأنها من ثم ترى أنه على مجلس الشيوخ أن يضع ذلك في اعتباره أثناء النظر في التصديق على المرشح قاضياً في المحكمة الدستورية العليا.
الحزب الجمهوري صاحب الأغلبية في مجلس الشيوخ (٥١ جمهورياً مقابل ٤٩ ديمقراطياً وفي اللجنة القضائية ١١ ضد ١٠) بات متهماً بتجاهل إجراء دعوة مكتب التحقيق الفيدرالي لكي يحقق في الواقعة لكي يسيطر على المحكمة الدستورية العليا ويدفعها في اتجاه محافظ يغيّر من الطبيعة الديمقراطية والليبرالية في المجتمع الأميركي.
الحزب الديمقراطي في الناحية الأخرى بات متهماً بأنه من خلال الدعوة إلى تدخل مكتب التحقيق الفيدرالي فإنه يريد كسب الوقت وإطالة مدة الموافقة على الترشيح حتى تتداخل مع الانتخابات النصفية التي أجريت في ٦ نوفمبر الجاري، وبالتالي مع تكرار الحديث عن التحرش تضعف فرص المرشحين الجمهوريين في الفوز.
كل ما سبق بقدر ما يقدم من إيجابيات النظام السياسي الأميركي، فإنه حتى مثل هذا النظام فإنه يتعرض لاختبارات قاسية.
* نقلاً عن “البيان”