قضايا ودراسات

ذكريات أمريكية ينعشها الفرنسيون

عاصم عبد الخالق

مثل غيرهم من الشعوب يتابع الأمريكيون الاحتجاجات الشعبية الحالية في فرنسا. ومن الطبيعي أن تستدعي صور الحشود الجماهيرية الغاضبة التي تجوب شوارع باريس ذكريات مماثلة عاشها الأمريكيون، ولن يكون غريباً أن يقارنوا بين النتائج في الحالتين، حتى ولو كانت الأسباب والظروف مختلفة. والمقارنات السريعة التي تقوم بها وسائل الإعلام تنتهي دائماً إلى نتيجة واحدة، هي أن الفرنسيين نجحوا في انتزاع تنازلات مهمة وفورية من حكومتهم، بينما أخفق الأمريكيون في تحقيق ذلك، على الأقل في الأحداث الكبرى.
ويرى عالم الاجتماع الأمريكي المخضرم جيمس بيتراس، الأستاذ بجامعة بينجامتون في نيويورك، أن الاحتجاجات الشعبية الأهم في أمريكا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تفجرت بسبب حدثين أساسيين: الأول هو الحروب الرئيسية التي خاضتها واشنطن لاسيما ضد العراق، ثم الأزمة الاقتصادية الكبرى وانهيار المصارف، وما تبع ذلك من خطة إنقاذ مالي أواخر 2008.
في الحالتين لم يكن هناك دعم شعبي لموقف الإدارة. كانت الجماهير رافضة للحرب، ومتشككة في جدوى إجراءات إنقاذ المصارف التي فجرت الأزمة باستغلالها وانتهازيتها. ويحاول بيتراس، في دراسة قيمة، أن يجيب عن السؤال المهم بشأن أسباب فشل الاحتجاجات الأمريكية في تحقيق أهدافها. كما يبحث عن إجابة لسؤال آخر، هو: لماذا لم تستمر الحركة الشعبية.؟
قبل الإجابة يشير العالم الأمريكي إلى ثلاث ملاحظات أساسية، الأولى أن الاحتجاجات على حرب العراق لم تكن حدثاً تاريخياً عارضاً أو استثنائياً، فقد كان لها جذور منذ الاحتجاجات العارمة على حرب فيتنام. الثانية هي أن الجماهير الغاضبة كانت تدرك أن بلدها معزول دولياً بفعل الرفض الشامل للحرب، وبالتالي فإنها كانت جزءاً من حركة عالمية أوسع. الملاحظة الثالثة هي أن تدفق الجماهير على الشوارع كان يعكس انهيار ثقتها في النخبة المؤيدة للحرب، وفي مقدمتها الإدارة نفسها، والكونجرس، ووسائل الإعلام الكبرى، واللوبي «الإسرائيلي»، واليمين عموماً.
غير أن الاحتجاجات خرجت وانفضت دون أن تحقق أهدافها لعاملين، هما: أن قادتها تخلوا عن العمل المباشر في الشارع؛ ظنّاً أنه لم يعد مجدياً، بعد أن فشل في تغيير مجرى الأحداث، واتجهوا عوضاً عن ذلك إلى المؤسسات السياسية التقليدية، ممثلة في الحزب الديمقراطي. من هنا وجه قادة الاحتجاجات الجماهير الغاضبة إلى تأييد المرشح الديمقراطي وقتها باراك أوباما.
العامل الثاني هو أن القادة والنشطاء انخدعوا بالنداءات العاطفية المؤثرة لأوباما، وصدقوا وعوده بإنهاء الحروب. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يتبين لهم تهافت ذلك كله، فقد واصل حروبه الخارجية بصورة مختلفة، من خلال الغارات الجوية في العراق وسوريا واليمن وليبيا وهندوراس، وأبقى القوات في أفغانستان وأعادها للعراق.
اكتشف المحتجون بعد فوات الأوان أنهم تعرضوا للخديعة. والغريب أنهم لدغوا من نفس الجحر مرتين. فقد ساند الكثير منهم المرشح الجمهوري دونالد ترامب في مواجهة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون المؤيدة للحرب، والتي تمثل من وجهة نظر الجماهير امتداداً للمؤسسة الحاكمة الفاشلة. مرة أخرى اكتشف الجمهور زيف دعايات ترامب المتوارية خلف كلماته المنمقة، تماماً كما حدث مع أوباما.
ليس بوسعنا تجاهل أسباب أخرى للفشل الأمريكي، أهمها أن الحركات الاحتجاجية افتقدت لهيكل تنظيمي يحركها ويضمن استمراريتها للضغط على الإدارة. كما تعرضت لتهميش متعمد من الحزبين الكبيرين. وكان الخطأ الأكبر لقادتها هو الارتماء في أحضان الديمقراطيين.
رغم كل ذلك يرى عالم الاجتماع الأمريكي أن المستقبل مهيأ لانطلاق موجة جديدة من الاحتجاجات، وأن الظروف الدولية مواتية في ظل إصرار ترامب على تنفير العالم من بلاده بما في ذلك الحلفاء. كما أن الدرس الأهم الذي تقدمه التجربة الفرنسية الحالية هو أن الجماهير لم تعد بحاجة إلى هيكل تنظيمي لحشدها وتوجيهها، بعد أن أصبحت ذاتية التنظيم والحركة، من خلال الإنترنت ومواقع التواصل.
يختتم بيتراس دراسته بنبوءة مهمة، هي أن الإصلاح قادم إلى أمريكا، إن لم يكن الآن ففي المستقبل القريب.

assemka15@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى