روسيا والشرق الأوسط
د. ناصر زيدان
العلاقات بين الدول كما كُل شيءٍ آخر؛ تحتاج إلى التأهيل والترميم والتحديث، وإلاّ فهي تتآكل أو تتلاشى، أو تتراجع، أو أنها تفقد حيويتها. والظروف الموضوعية هي التي تتحكَّم بمستوى العلاقة بين دولة ودولة، وتفرض المعطيات الموجودة على أرض الواقع شكل هذه العلاقة، وتأثيرها على المسار العام، كذلك فإن هذه المعطيات تُحدّد مستوى التبادلات التجارية وغير التجارية. ووفقاً لموازين القوى، ولحاجة كل دولة؛ يمكن تفعيل العلاقات الثنائية بين الدول، أو خفض مستوى هذا التفعيل.
تبدو روسيا اليوم أكثر حماسةً لتفعيل دورها في الشرق الأوسط، وعلى مختلف المستويات. وهي تقوم بتفعيل هذا الدور في كل المجالات الحيوية: الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ويظهر حرصها واضحاً ليطول تفعيل هذا الدور مجمل الدول في المنطقة، القريبة منها أو البعيدة، والمتضررة من تدخلاتها، أو المستفيدة من هذه التدخلات. وتحاول الشطارة الروسية الاستفادة من بَلَادة الآخرين، أو إخفاقاتهم، وهي تستخدم الإغراءات الاستثمارية، كما تستفيد من مستوى الأداء العسكري لقواتها، حيث أثبتت بالتجارب العملية فعالية بعض الأسلحة التقليدية المتطورة، والتي تُنافس قريناتها المُصنَّعة في الدول الأُخرى من حيث فعاليتها، ومن حيث انخفاض أسعارها.
في التقليد القديم للعادات الروسية – السلافية؛ إن خطوات السير على الأقدام عندهم ثقيلة، وأحياناً بطيئة، ولكنها لا تتوقف، ولا تتراجع عند صعوبة أي منعطف، وهي تتحمل أشكال القساوة والوعورة، كما «الدب السيبيري» الذي يسيرُ المسافات الطويلة بظروفٍ مناخية باردة، وفي الصحارى القاحلة ليصل إلى الأهداف البعيدة. هكذا عبر الأسطول الروسي المحيطات والبحار عبر المحيط الشمالي والبحار الأوروبية وعبر شرق الأطلسي ليصل إلى شواطئ المتوسط الشرقية في العام 1772، عندما أقفل العثمانيون في وجههِ المضايق التركية، ليحتل سواحل فلسطين ولبنان حينها، وليُساند بذور التمرّد المصري على السلطنة العثمانية.
الانطلاقة الروسية لاستعادة المكانة الدولية عبر الشرق الأوسط؛ بدأت عملياً في العام 2015، وبدت متماسكة وفيها تصميم واضح على استعادة المبادرة، بعد فترة من التراخي، أو الضياع. والأحداث التي رافقت التدخُل العسكري الروسي لصالح النظام في سوريا، كانت مدخلاً لإحداث الفروقات النوعية في الحضور السياسي والعسكري لموسكو. وإسقاط الدفاعات التركية لطائرة «السوخوي» الروسية فوق الحدود الشمالية لسوريا في نهاية العام 2015؛ كادت أن تُشعِل حرباً بين البلدين، ولكن الحادثة تحوَّلت فيما بعد إلى نقطة إطلاق لترسيخ علاقات غير مسبوقة بين روسيا وتركيا، في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وتمَّ توقيع مجموعة من الاتفاقيات التجارية بين البلدين، بما في ذلك اتفاقية تزويد موسكو لأنقرة صواريخ دفاع جوي متطورة من نوع «إس 400»، وهي الدولة الوحيدة في حلف الناتو تمتلك مثل هذا السلاح. وانطلاقاً من هذا التعاون التركي – الروسي، عُقدت عدة اجتماعات قمة بينهما مع الجانب الإيراني، كانت من أهم نتائجه محاصرة المحاولة الانفصالية الكردية في شمال العراق، وفرض طوق مُحكم على التطورات الميدانية في سوريا، بما في ذلك الإمساك بنواصي الحل الذي تنتظره البلاد.
مسيرة استعادة النفوذ الروسية البطيئة الخطى، والتي بدأت منذ ثلاث سنوات تقريباً؛ تفقَّدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بثلاثين ساعة في 11و12 ديسمبر 2017، وجال خلال هذه الساعات المعدودة على القاعدة الروسية في مطار حميميم العسكري على الساحل السوري ولاقاه الرئيس بشار الأسد، وأعلن عن بدء سحب قواته من سوريا، ما خلا القوات الموجودة بشكل دائم في قاعدتي طرطوس البحرية، وحميميم الجوية. معلناً تأييد الحل السلمي للنزاع في سوريا من خلال المفاوضات الجارية في جنيف، أو من خلال التسوية الشاملة التي يُخطِط الروس لترسيخها، عبر الطاولة المستديرة الواسعة التي يُحضِّرون لانعقادها في مدينة سوتشي الروسية على ساحل البحر الأسود، ومن المتوقع أن تضم مئات الشخصيات السورية من مختلف الأطياف والاتجاهات.
وزار بوتين في ساعاته الثلاثين الآنفة الذكر؛ القاهرة والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ووقَّع معه اتفاقية الضبعة، وهي اتفاقية «العقد» (أي إنها من أهم الاتفاقيات التي توقعها الدولتان خلال العشرية الثانية من القرن الحالي) بحيث تبلغ قيمتها 25 بليون دولار أمريكي، وهي قرض مدته 22 سنة تقدمه موسكو للقاهرة بفائدة 3%، ويتم من خلاله بناء مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية، بقوة 3600 ميجاوات، يُفترض الانتهاء من إنشائهِ وبدء الاستفادة منه في العام 2026. وهذا المشروع الذي يقع على الساحل الشمالي الغربي لمصر في منطقة مرسى مطروح، يعتبر حلماً مصرياً قديم العهد، لم تتمكن من تحقيقه أي من الإدارات المصرية المتعاقبة. وأعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة القصيرة للقاهرة؛ عودة التبادلات السياحية بين البلدين، بعد توقُف دام سنتين، منذ سقوط الطائرة السياحية الروسية فوق سيناء في العام 2015.
وانتقل الرئيس بوتين في ذات الجولة الشرق أوسطية من القاهرة إلى أنقرة، ووقَّع هناك مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان عدداً من الاتفاقيات التجارية، ووضعا معاً اللمسات الأخيرة على مسار التسوية في سوريا، على أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح التركية في تقييد اندِفاعة الانفصال الكردية، وتساهم تركيا بموجب هذا الاتفاق في تسويق التسوية في صفوف أصدقائها من المعارضين السوريين. وتمتين العلاقات التركية – الروسية إلى هذه الحدود المُتقدِمة؛ يعتبر سابقة مهمة في سياق العلاقات الدولية، لأن تركيا ما زالت عضواً في حلف الناتو الذي يقف على الطرف الآخر في مواجهة الترسانة العسكرية الروسية.
والاندفاعة الروسية الشرق أوسطية لم تقتصر على هذا الحضور الفاعل في سوريا وتركيا ومصر؛ بل شملت تأثيراتها الساحات الأخرى، بما في ذلك المساهمة في ضمان الاستقرار في لبنان.
وعلى خطٍ موازٍ آخر؛ فالسياسة الروسية الجديدة في الشرق الأوسط تراعي المكونات العربية المختلفة. فقد أبرمت روسيا اتفاقية مع المملكة العربية السعودية، تزود بموجبها موسكو الرياض صواريخ «إس 400» المضادة للطائرات وللصواريخ الباليستية، وكان لخطوة موسكو في إقفال سفارتها في صنعاء -على إثر اغتيال الرئيس السابق علي عبد الله صالح- ونقل عملها إلى الرياض دلالات واسعة في ترسيخ علاقات روسيا مع دول الخليج.
ومن العلامات الفارقة على الوثبة الروسية؛ الترحيب الذي لقيه الرئيس السوداني عمر حسن البشير في موسكو في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات بين البلدين، بما في ذلك الشروع في بناء قاعدة عسكرية روسية في المياه الإقليمية السودانية في البحر الأحمر.