غير مصنفة

شخص نبوح إليه

د. حسن مدن

في ألبوم رسائل تشيخوف إلى عائلته، نقرأ، التالي، في رسالة لابن عمه: «إذا بعثت لك برسائل لأمي فسيكون من الأفضل أن تعطيها لها سراً لا أمام الآخرين، فهناك أشياء في الحياة لا يبوح بها المرء سوى إلى شخص وحيد يطمئن إليه، وهو ما يدعوني للكتابة لأمي دون الآخرين. في هذا العالم الفاسد لا يتبقى لنا أخلص من الأم».
تشيخوف على حق، ربما ما من شخص أقرب إلى نفوسنا من أمهاتنا، وما من أحد بوسعه أن يعرفنا أكثر منهن. ولكن ماذا يفعل من لم تعد أمهاتهم على قيد الحياة، وحتى في حال كانت الأم بجوارنا، هل حقاً نستطيع أن نبوح لها بكل شيء؟ ألن نخشى على بالها من أن ينشغل بمتاعبنا، فنضيف عليها عبئاً من الأعباء الكثيرة التي تتحملها كوننا أبناءها.
الأرجح أن هناك شخصاً بعينه في الحياة. قد يكون حبيباً، أو صديقاً، أو قريباً، نلجأ إليه عند الملمات أو لحظات الضيق، فنبوح له بكل شيء، شخص يشبهنا، «له نفس كريات الدم الحمراء والبيضاء التي لنا» كما يقول الصحفي علي أمين. عنده نجد العون. وحتى إن لم يسد لنا نصيحة، لأن الأمر مستعصٍ، فإن مجرد حديثنا معه، الذي هو أشبه بما يطلق عليه، في العامية، ب «الفضفضة»، يخلق لدينا شعوراً بالراحة، كأن الضيق الذي كنا نشكو منه قد تبدد.
هناك أشياء كامنة في نفوسنا، في دواخلنا. ولكي تتحول إلى أفكار عليها أن تصاغ في كلمات، ولكي نفعل ذلك علينا أن نتحدث مع شخص نسكن إلى روحه ونطمئن. مع هذا النوع من الأحبة نتدفق في الحديث ونفصح عن مكنونات أنفسنا، لأننا إذ نفعل ذلك نكون قد صغنا تأملاتنا وهواجسنا وبواعث قلقنا وتردداتنا في كلمات، في أفكار.
عن حالٍ مثل هذه يقول بطل رواية «الهدنة»، متحدثاً عن علاقته مع المرأة التي يحب: «متعتنا الأولى هي الحديث. الحديث عن نفسينا، ليس هناك متعة أو استعراض قادر على التعويض عن المتعة التي نشعر بها ونحن نمارس هذه الصراحة»، للدرجة التي كان فيها الواحد منهما يشعر بأنه في الحديث مع الآخر يصبح أكثر صراحة مما لو كان يحادث نفسه.
في الحديث معها، كان يكتشف من خلال الكلام، المناطق المجهولة في نفسه، أو الأمور التي يحسها، لكن لم يسبق له أن عبَّر عنها بهذا الوضوح، وربما كانت ستبقى أسيرة في صدره، دون أن يحسن قولها أبداً، لم تكن المرأة تستدرجه للحديث، أو يستدرجها هو للحديث، وإنما كانا يتدفقان طوعاً في الكلام.
كل البشر في حاجة لمثل هذا الشخص الذي نتدفق معه في الكلام طوعاً. شخص بعينه، ولا أحد سواه، رغم كثرة البشر حولنا.

dr.h.madan@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى