مقالات عامة

صحن ستالايت

يوسف أبو لوز

لم يتزوج الكاتب الأردني الساخر محمد طملية في حياته مطلقاً (١٩٥٧- ٢٠٠٨)، ولكنه كان دائم الكتابة عن زوجة مفترضة.
زوجة من اللغة فقط أو من الورق، وهو اخترع في كتابته اليومية شخصيتين: «أبو العبد» وهو اسم شعبي سائد في الأردن وفي الأرجح يسكن «أبو العبد» في المخيمات الفلسطينية، أما الشخصية الثانية فهي «حليمة» زوجة «أبو العبد» التي تجيد الطبخ والغسل والشطف.. وهي أيضاً دائماً أم رؤوم.
تقوم العاصمة الأردنية عمّان على سبعة جبال واحد منها اسمه «جبل المريخ»، وأخذ هذا الاسم نظراً لعلوه، وتسكنه طبقة فقيرة من الأردنيين يعيشون في بيوت متلاصقة تنتشر بينها أزقة متعرجة باردة مؤثثة دائماً بالظلال والأعشاب الصغيرة اللاصقة بالحجارة.
عند ظهور الفضائيات التلفزيونية انتشرت الصحون اللاقطة «الستالايت» على أسطح البيوت، وحتى الفقراء اشتروا هذه الصحون ليشاهدوا العالم عبر الأقمار الصناعية، ومن بين هؤلاء «أبو العبد».
يكتب محمد طملية ذات يوم بعنوان «زوجتي».. «..صحون الستالايت هنا وهناك: يتحول أحد هذه الصحون ببطء يميناً، يتحول صحن آخر يساراً، وثمة صحون لا تتحرك:.. نحن في عطلة، وسكان البناية يتسعكون بواسطة «الريموت» في الفضاء: جارنا «أبو العبد» يقفز برشاقة متناهية من قمر إلى قمر، وليت زوجتي تضع طنجرة ضغط على رأسها، مثلما يفعل رواد الفضاء وتذهب إلى المريخ. اللعنة، أهلها يقيمون في جبل المريخ».
بالطبع، يقصد محمد طملية بقفز «أبو العبد» من قمر إلى قمر بأنه يتحول من محطة فضائية إلى أخرى بواسطة «الريموت» «برشاقة متناهية»، وهي لقطة ذكية من كاتب يصنع مقالته بأقل الكلمات، أما اللقطة الذكية الثانية، فهي ربطه العفوي بين كوكب المريخ، وبين جبل اللويبدة المكتظ بالسكان.
ما أردت قوله أن الكتابة الساخرة لها شروط أو حيثيات لتصبح كتابة ساخرة، وإلا تحولت إلى مجرد هراء، ولعلَّ الذكاء وخفة الدم إلى جانب خفة العبارة هما معاً الأساسات المطلوبة في مثل هذه الكتابة.
بقي أمر واحد مهم جداً وهو.. الشعر أو الشعرية الغامضة النائسة بخفة ومواربة في كيان السخرية، ومحمد طملية كان يمتلك هذه الشعرية هو الذي لم يكتب الشعر.
يكتب محمد طملية في مقالة ثانية.. «..يلتقط صحن الستالايت جثثاً كثيرة، ويرميها أمامنا، ليس على قشرة الشاشة، وإنما كجمهور جلس أمام التلفزيون ليتابع ما يستجد من وجع..».
رحل محمد طملية في العام ٢٠٠٨، أي قبل الربيع العربي وولادة الكثير من مسوخ الرعب والإرهاب والطغيان، والجثث التي كانت صحون الستالايت تلتقطها آنذاك لا شيء بجانب ما تلتقطه صحون اليوم على الخط الساخن من بغداد إلى دمشق حتى أن قشرة الشاشة = أخي محمد = تحولت من فضية إلى حمراء.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى