طرق الحرير.. تاريخ جديد للعالم
تأليف: بيتر فرانكوبان
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
أصبحت المنطقة الشاسعة الممتدة من البلقان إلى جنوب آسيا في دائرة الضوء العالمية في السنوات الأخيرة، مع ظهور طريق حرير جديد. يتناول هذا الكتاب تشكل هذا الطريق الجديد وصعود الصين الاقتصادي، ويركز فيه المؤلف على ضرورة فهم ماضي الدول والمدن التي كانت على طريق الحرير، وكيفية تشكل الشبكات التجارية المعقدة، ويرى أن الصراعات في الشرق الأوسط وعدم الاستقرار السياسي فيها، هي مخاضات عهد جديد يؤسس لمكانة جديدة للشرق الذي بقي مركز الكون لآلاف السنوات، ويبيّن فيه كيف كان مصير الغرب مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالشرق.
يثير المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان في كتابه «طرق الحرير.. تاريخ جديد للعالم»، الصادر في 672 صفحة عن دار نشر «بلومزبري» البريطانية عام 2015 (وأعادت دار فينتاج نشره عام 2017)، قضايا تدفع للبحث عن الأسباب التي كانت وراء دراسته موضوعاً شائقاً وشائكاً في الآن عينه؛ وبتصريحه عن بعض هذه الدوافع في مقدمة الكتاب، إلا أن القارئ سيتمكن من التقاط أفكار تتجاوز الفضول العلمي، وتذهب بعيداً نحو العلاقة التي لم تستقر بين الشرق والغرب، وأسلوب مقاربة الكتّاب الغربيين للمسألة الشرقية عموماً، ودراسة تاريخ المنطقة كجزء من بانوراما عامة، تحمل الكثير من التجاهل والصور النمطية.
رحلة أفكار
يتألف الكتاب من مقدمة و25 فصلاً وخاتمة. يظهر في عناوين الفصول جميعاً كلمة «طريق» (إنشاء طريق الحرير. الطريق إلى الشرق المسيحي. الطريق إلى الثورة. الطريق إلى الجنة. الطريق إلى الجحيم. الطريق إلى الإمبراطورية. الطريق إلى المأساة…) تقدم هذه العناوين رحلة فكرية وتاريخية، تستعرض طريق الحرير منذ إنشائه وصولاً إلى العصر الراهن، مروراً بما شهده العالم من تغيرات وتحولات مصيرية كبرى، ستؤدي بهذه الشبكة من الطرق (التي عُرفت باسمها المتداول «طريق الحرير» عام 1877 ميلادية، على يد العالم الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشهوفن) التي انتقلت عبرها البضائع والأفكار والمذاهب والأمراض، وشكلت صلة وصل جغرافية وتاريخية، إلى شبكة حديثة من التحالفات الاقتصادية المعقدة، والمصالح السياسية والجيوستراتيجية المتداخلة.
كما أن الكتاب يمثل رحلة ثقافية تعرض ثنائية التركيز والتهميش التي لطالما ظهرت في الثقافة الغربية، والتي دفعت الكاتب للبحث ومحاولة تفنيد مقولاتها بشكل موضوعي. ليوضح التحولات التي ساهم طريق الحرير في صناعتها، لاسيما وأنه كان بحسب ما يذكر البعض من العلامات المبكرة للعولمة، كما أنه أظهر بشكل جليّ دور التجارة في تشكيل الركائز التي تقوم عليها المجتمعات في ذلك العهد، وتطورها لاحقاً حتى الوصول للمجتمع المعاصر.
سرديات التفوق الغربي
يقول فرانكوبان في مقدمة الكتاب، إنه خلال مراهقته كان يشعر «بالانزعاج حيال التركيز الجغرافي المحدود، الذي تلقاه في دراسته، والذي اكتفى بالتركيز على أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وأهمل بقية العالم». وبعد دراسة الأحداث الرئيسية في تاريخ الغرب، يقول: «كنت أنظر إلى الخارطة وأرى مناطق شاسعة من العالم، تم تجاهلها بصمت».
تأثر بكتاب عالم الإنثربولوجيا إريك وولف «أوروبا ومن لا تاريخ لهم»، لكنه لاحظ التسلسل عينه للحضارة الغربية التي كانت في صعودها مرتبطة بإغفال الآخرين، وعندما تكونت لديه الفكرة التي لخصت «دور الصناعة والديمقراطية في تجسيد حق الحياة والحرية والبحث عن السعادة في الولايات المتحدة، أدركتُ في الحال بحسب قوله أن هذه هي الحكاية ذاتها التي رُويت لنا وتعلّمناها: إنها أحبولة انتصار الغرب سياسياً، وثقافياً وأخلاقياً».
دفعته هذه الفكرة إلى محاولة البحث عن طريقة للتنصل من شرك هذه النظرية الاستعلائية، التي تسوّقها الثقافة ووسائل الإعلام الغربية التي تركز على سرديّة ثابتة ومؤثرة، عن صعود الغرب وتفوقه، فاتجه إلى الخرائط لاكتشاف الأجزاء المغيّبة من العالم، إذ إنه أراد «معرفة المزيد عن روسيا وآسيا الوسطى، عن بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين.
أردتُ فهم أصول المسيحية منظوراً إليها من آسيا، وكيف نظر الصليبيون إلى أولئك الذين كانوا يعيشون في المدن العظيمة في العصور الوسطى، القسطنطينية، والقدس، وبغداد، والقاهرة. مثلاً، أردت معرفة الكثير عن الإمبراطوريات العظيمة في الشرق، عن المغول وفتوحاتهم، كما أردت أن أفهم كيف بدت الحرب العالمية الأولى والثانية منظوراً إليها ليس من الجانب الأوروبي، وإنما من أفغانستان والهند».
تعلم فرانكوبان اللغتين الروسية والعربية، وتعرف إلى الأدب والموسيقى، إضافة إلى تلقيه دروساً في الثقافة والتاريخ الإسلاميين والتراث العربي الكلاسيكي.
وبحسب قوله، فإن «هاتين اللغتين ساعدتا في فتح آفاق عالم بانتظار أن يُكتشف أو كما سأدرك لاحقاً أن يُعاد اكتشافه من قبلنا نحن في الغرب»، ليصل بعد ذلك إلى قناعة مفادها أنه «لآلاف السنين، كانت المنطقة الواقعة بين الشرق والغرب، والتي تربط أوروبا بالمحيط الهادي، هي المحور الذي دارت حوله الأرض».
تأسيس طريق الحرير
يقول المؤلف في الفصل الأول من الكتاب: «منذ بداية الزمان، كانت منطقة آسيا الوسطى هي المكان الذي صُنعت فيه الإمبراطوريات. كما أن الأراضي الغرينية المنخفضة في بلاد ما بين النهرين، التي يغذيها نهرا دجلة والفرات، تعدّ أساس الحاضرة ذاتها. ففي هذه المنطقة بالتحديد، تشكلت أول البلدات والمدن. كما تطورت الزراعة المنظمة في بلاد ما بين النهرين وعبر كامل «الهلال الخصيب»، وهي أراضٍ ذات إنتاجية عالية، وتمتلك الوصول إلى المياه الوفيرة، وتمتد من الخليج العربي وصولاً إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. هنا بالذات، هو المكان الذي ظهرت فيه أول القوانين المسجلة قبل حوالي أربعة آلاف سنة على يد حمورابي، ملك بابل، الذي فصّل التزامات رعاياه ووضع عقوبات صارمة على تجاوزاتهم».
يسرد الكاتب تاريخاً موجزاً لإمبراطوريات الشرق وممالكه والشخصيات الرئيسة التي أثّرت في تاريخه وشكلته، فيفرد صفحات للإمبراطورية الفارسية وللإسكندر المقدوني وبوذا في عرض لواقع الحياة والسياسة والدين والاقتصاد في آسيا الوسطى، وصولاً إلى طموحات الصين التي كانت تحت سلطة سلالة هان التي حكمتها بين 206 قبل الميلاد، حتى 220 بعد الميلاد.
ويتناول الحرب بين رجال القبائل البدوية في آسيا الوسطى، الذين هاجروا بعد هزيمتهم إلى باكتريا (خراسان) وأسسوا مملكة كوشان التي ستصبح محطة رئيسية في شبكة طريق الحرير. كما يسرد الكثير من تفاصيل التحالفات السياسية والظروف الاجتماعية التي كان هدفها في النهاية، تأسيس هذه الشبكة التي بمقدورها تحقيق الطموحات التجارية التوسعية للصين، وهو ما سيسهم في تغيير العالم.
فقدان منظور التاريخ العالمي
بعد سرده التاريخي للأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في المنطقة، يركز الكاتب في خاتمته «طريق الحرير الجديد» على أنه «بطرق عديدة، فإنه في نواحٍ عديدة، مثلت أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، شيئاً يشبه الكارثة بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، اللتان نجحتا في صراعهما المحتوم بغية الحفاظ على موقعهما في المناطق الحيوية التي تربط الشرق بالغرب.
ما كان لافتاً بحقّ خلال أحداث العقود الأخيرة، هو افتقار الغرب إلى المنظور حول التاريخ العالمي، حول الصورة الأكبر والأشمل والموضوعات الأوسع التي تظهر في المنطقة؛ إذ إنه في أذهان مخططي السياسة، السياسيين، والدبلوماسيين والجنرالات، بدت مشاكل أفغانستان وإيران والعراق متمايزة ومنفصلة، وبالكاد ترتبط ببعضها بعضاً».
ومع ذلك، فإن التراجع قليلاً سيوفر منظوراً قيّماً، سيمكننا من رؤية منطقة واسعة تعيش في حالة اضطراب. في تركيا، هناك معركة مستعرة على روح البلاد، حيث أغلقت مخدّمات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، من طرف حكومة مقسمة حول: أين يكمن المستقبل؟.
تتكرر المعضلة في أوكرانيا، حيث مزقت الرؤى الوطنية المختلفة البلاد. سوريا، أيضاً، تمر بتجربة مؤلمة من التغيير العميق، حيث تتصارع القوى المحافظة والليبرالية مع بعضها بعضاً بثمن باهظ. أما منطقة القوقاز فقد مرت، أيضاً بمرحلة انتقالية، مع ظهور قضايا تتعلق بالهوية والقومية لا سيما في الشيشان وجورجيا. ثم بالطبع هناك منطقة أخرى في الشرق الأقصى، حيث كانت «ثورة التوليب» في قرغيزستان، عام 2005، مقدمة لفترة طويلة من الاضطراب السياسي، ناهيك عما حدث في شينجيانغ غربي الصين، حيث أصبح السكان الأويغور غير مستقرين وعدائيين بشكل متزايد، مع حدوث هجمات إرهابية باتت تهدد السلطات التي فرضت أن إطالة اللحية تعدّ إشارة للنوايا المشبوهة، وبدأت برنامجاً رسمياً، يعرف بمشروع الجمال، ويهدف لمنع النساء من ارتداء الحجاب.
يعدّد المؤلف أمثلة على الطفرة الاقتصادية التي تعيشها بعض الدول المحورية في آسيا الوسطى، ويشير لملامح الفساد الاقتصادي والسياسي، لكنه يتطرق إلى ظهور طريق الحرير من جديد، وفق مصالح تجارية جديدة لا سيما مع الاكتشافات الحديثة للثروات الطبيعية في هذه المنطقة.
ويقول: «مرة أخرى، تصعد طرق الحرير. من السهل الشعور بالارتباك والانزعاج بسبب التفكك والعنف في العالم الإسلامي، بسبب الأصولية الدينية، والصدامات بين روسيا وجيرانها، أو بسبب صراع الصين مع التطرف في أقاليمها الغربية.
غير أنه مع ذلك، فإن ما نشهده الآن هو مخاض في منطقة كانت ذات يوم تهيمن على المشهد الفكري والثقافي والاقتصادي، وهي تبزغ الآن من جديد؛ إذ نشهد علامات تحوّل مركز الجاذبية في العالم؛ والعودة إلى المكان الذي كانت ترقد فيه لآلاف السنين.
ثمة أسباب واضحة وراء حدوث ذلك، أهمها بالطبع هي الموارد الطبيعية لهذه المنطقة. كان احتكار موارد بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين والخليج العربي، أولوية خلال الحرب العالمية الأولى. ومنذ ذلك الحين، سيطرت الجهود الرامية إلى تأمين أكبر جائزة في التاريخ على توجهات العالم الغربي ومواقفه تجاه هذه المنطقة».
ويشير إلى أن هناك «سلسلة من العلاقات التي تبزغ من جديد أمام أعيننا»، ولا يمكن للغرب تجاهلها.
اللحظة الانتقالية
يشدد الكاتب على أن الصين تعمل على «الاستثمار بقوة في ربط نفسها بطرق الحرير. من خلال التأكيد على تراث مشترك للتبادل التجاري والفكري». اليوم، تحقق الصين تمدداً غير مسبوق، ويقول: «الاستثمار الصيني في منطقة الكاريبي ارتفع بأكثر من أربعة أضعاف بين عامي 2004 و2009، في حين يتم بناء الطرق في جميع أنحاء منطقة المحيط الهادي، إضافة إلى الملاعب الرياضية والمباني الحكومية البارزة، عبر المساعدات أو القروض الميسرة، أو الاستثمار المباشر من الصين».
ويذكّر بما قاله الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عام 2012: «إن أمتنا تمر بلحظة انتقالية». هذه اللحظة الانتقالية بالذات، هي التي يركز عليها بيتر فرانكوبان، ويقول: إن «الفترة حتى عام 2040 ستكون عصراً انتقالياً».
ستتحول موازين القوى، وتتغير بؤرة الجذب التجاري الهائل لتعود نحو الشرق. ويختتم الكاتب بقوله مؤكداً: «بينما نتأمل من أين قد يأتي التهديد القادم، وما هي أفضل طريقة للتعامل مع التطرف الديني، أو كيفية التفاوض مع الدول التي تبدو راغبة في تجاهل القانون الدولي، فإن هناك شبكات وصلات يتم ربطها بهدوء في أرجاء آسيا. أو بالأحرى، يتم استعادتها. إنها طرق الحرير تظهر مرة أخرى».
نبذة عن الكاتب
ولد الأكاديمي والمؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان عام 1971، ويعمل أستاذاً للتاريخ العالمي في جامعة أوكسفورد.
يشغل العديد من المناصب الإدارية في مراكز أبحاث ومعاهد تاريخية وجغرافية وأنثروبولوجية. قبل كتابه «طرق الحرير»، أصدر كتاباً مهماً بعنوان: «الحملات الصليبية الأولى: نداء من الشرق» عام 2012.