علاقات دولية مسمومة
مفتاح شعيب
أخذت قضية تسميم العميل الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال وابنته بغاز للأعصاب تتفاعل على أكثر من صعيد، وفتحت تياراً متوتراً بين لندن وموسكو، اللتين تبادلتا استدعاء السفراء، واستعرت الحرب الكلامية والتهديدات بينهما، وتحركت الآلة الإعلامية، واستنفرت العواصم الغربية للإدلاء بمواقفها حيال القضية ضمن حملة شاملة تستهدف موسكو، التي ردت بعنف على المواقف المناوئة لها، واعتبرتها «محاولة قذرة»؛ لتقويض مصداقيتها.
قضية سكريبال ليست الوحيدة، التي تثير التوتر بين لندن وموسكو، فالعلاقات بين الطرفين مرت بلحظات صعبة في السنوات الأخيرة منها بسبب احتكاك القوات الجوية للبلدين، ثم حين عبرت حاملة الطائرات الروسية الأميرال كوزنستوف وسخرية الإعلام البريطاني من «دخانها الكثيف». أما هذه المرة فتؤكد المؤشرات أن العلاقة مقبلة على مزيد من التصعيد؛ بعدما أعلنت الحكومة البريطانية طرد عدد من الدبلوماسيين الروس، بينما ما زالت روسيا تتحلى «بضبط النفس»؛ لكنها أعربت عن استعدادها لمواجهة كل الاتهامات ضدها، معتبرة أن إثارة هذه القضية تأتي في سياق حملة غربية للتأثير على مصداقية موسكو وتصويرها على أنها دولة عظمى تتبع أساليب «المافيا» في تصفية معارضيها. وفي الواقع لا تخلو المواقف الغربية من رغبة في الضغط على الرئيس الروسي؛ ليقدم بعض التنازلات في أزمات عدة في صدارتها الحرب السورية ومسألة التسلح، لا سيما بعد الفورة غير المسبوقة، التي بلغتها الترسانة الاستراتيجية الروسية.
الأزمة بين بريطانيا وروسيا ليست إلا زوبعة مؤقتة، ولا تستطيع أن تتجاوز حدود الممكن دبلوماسياً من قبيل فرض عقوبات أو مقاطعة سياسية مثل عدم المشاركة الرسمية في افتتاح كأس العالم الصيف المقبل. أما من جانب آخر، فهي جزء من استنفار غربي؛ للرد على السياسة الروسية «الهجومية»، وتعبر عن حرب باردة جديدة بدأت بالفعل؛ من خلال نشاط الجواسيس، وفي ظل حديث غربي لا ينتهي عن تدخلات روسية في الانتخابات سواء في الولايات المتحدة أو في دول أوروبية أخرى. وقد يكون ما خفي أكبر مما هو معلن، فهناك الكثير مما هو بين السطور في الخطاب المتوتر الدائر منذ أشهر بين موسكو والعواصم الغربية.
واقع الحال يؤكد أن قضية تسميم العميل سكريبال تحيل على تسمم أكبر أصاب العلاقات الدولية بالتنابذ وخصوصاً بين الشرق والغرب. كما يؤكد تصاعدها أن المناخ العام لن يعود بيسر إلى هدوئه، فالجانب الروسي، بعد الخطاب الأخير لفلاديمير بوتين، يبدو أنه قرر مواجهة السياسات الغربية بغض النظر عن العواقب. وبالمقابل يضغط الغربيون، بقيادة الولايات المتحدة، على موسكو كي تنكفئ على ذاتها، وتحجم عن مساعيها لاستعادة الدور العالمي، الذي كانت تلعبه قبل ثلاثين عاماً تحت المظلة السوفيتية. وإذا كان ليس في وارد الروس الرضوخ للضغوط، وليس في وارد الغربيين تغيير النهج، فإن الصدام الذي بدأ سياسياً ودبلوماسياً يمكن أن يتطور إلى الأسوأ، وهو ما سيؤثر في الاستقرار العالمي ويزيد من نقاط التوتر الدولية، وهو توجه خطر جداً لا يجب التهوين منه، إذا غابت الإرادة في التعايش المشترك والاعتراف المتبادل بمصالح كل طرف وحدود نفوذه.
chouaibmeftah@gmail.com