عن «الأقليات» في الوطن العربي
د. عبدالعزيز المقالح
ليس أسوأ من كلمة «أقليات»، هذه التي دخلت القاموس السياسي في العصر الحديث وكثُر استخدامها والتعامل معها بتوسع في الآونة الأخيرة، بعد أن جعلت منها قوى الهيمنة العالمية والمعادية لوحدة الشعوب واستقرارها، مدخلاً إلى تفتيت وتدمير الوحدة الوطنية، التي من شأنها صد أي تدخل استعماري، ومقاومة كل نفوذ يهدد سيادة الأوطان ويقضي على استقلالها.
وفي الوطن العربي وهو مكان الحرب المستعرة باسم الأقليات لا توجد أقليات بالمفهوم الذي يروج له الطامعون والباحثون عن النفوذ، تحت أي مبرر أو وسيلة. في الوطن العربي مكونات وطنية ضمن نسيجه التاريخي، ولها خصوصيات قد تكون دينية أو بهجوية، وهي خصوصيات لا تؤثر في الكيان العام للوطن، ولا تتنكر للانتماء التاريخي وما شكله ويشكل هذا الانتماء من انسجام ورغبة مشتركة، في التطور والتوافق على مواجهة كل ما يمس السيادة، ويعبث بقدسية الوحدة الوطنية، وما تمثله من صمام أمان للحاضر والمستقبل.
لنأخذ على سبيل المثال أشقاءنا المسيحيين في مصر العربية، وكيف أن أعداء مصر والوطن العربي يرون فيهم أقلية تحتاج إلى دعم وحماية من الخارج، هذا في المعنى الظاهر بينما الهدف يرمي إلى اتخاذهم غطاء للتدخل في شأن مصر، ولممارسة النفوذ والتأثير على سياستها وكيانها الوطني، لكن إخواننا المسحيين كانوا قد تنبهوا لهذه اللعبة الاستعمارية منذ زمن طويل، ووضعوا وحدة أرض مصر وسيادتها فوق كل اعتبار ديني أو مدني، وأثبت واقع التعايش والانسجام أن هذا المكون من مكونات الشعب العربي في مصر، هو أكثر حرصاً ودفاعاً عن الوحدة الوطنية أكثر من أي مكوّن آخر، وأنه يرفض بصدق واقتناع تام، أن يكون أداة في يد القوى المعادية ذات المرامي التي لا تخفى، سوى على أفراد من هذا الاتجاه الوطني الشامل، وهم من الذين أغواهم المنظور المعادي وانسلخوا من كل ما يمت إلى الوطن بصلة وطنية أو روحية، وممن هم على استعداد لبيع تاريخهم ولغتهم وذكرياتهم بأبخس الأثمان.
وليس الأشقاء المسيحيون في مصر هم المثال الوحيد على هذا المستوى من الوطنية، والشعور بأهمية التماهي في المجموع الأكبر، والاصطفاف في مواجهة كل محاولة تهدد سلامة الوطن، وما هم إلاَّ النموذج الأبرز في سياق ما جرى ويجري في عدد من الأقطار العربية، التي تمزقها المؤامرات ويتحكم فيها أصحاب المصالح من الأعداء الواضحين والمستترين.
كما أثبتت الأحداث المتلاحقة أن عملاء هذه القوى الخارجة على الإجماع، ليسوا من شريحة وطنية معينة، وإنما من كل الشرائح دون استثناء، مما يدل على أن المكونات الوطنية ذات الخصوصيات المتنوعة، أبعد ما تكون عن الاستجابة لنداء التفكيك والتفتيت، وهو ما يؤكد أن الوحدة الوطنية لدى كل المكونات لهذه الوحدة، ليست شعاراً ولا قشرة خارجية يمكن لأية قوة من القوى العبث بها أو التآمر عليها.
إن أقطارنا العربية التي هي أجزاء من نسيج أكبر يقوم عليه وبه الوطن العربي، لن يتحقق لها الاستقرار ولن تتمكن من بناء التنمية الحقيقية، وهي ممزقة وعرضة للتفتتات والتآكلات، ولا ضمان لوجودها آمنه سالمة إلاّ بالوحدة وبناء دولة النظام والقانون، الذي يكفل الحقوق ويرفع مستوى المعيشة لكل أبناء الوطن الواحد دون تمييز وانتقاض، وهكذا هو شأن الشعوب العظيمة الكبرى التي تتألف من مئات الملايين، لا من عشرات الملايين أو من ملايين تعد بأصابع اليد الواحدة.
abdulazizalmaqaleh@hotmail.com