مقالات عامة

عندما يصفّق الخليج بالغبطة

د. نسيم الخوري

مهما مطّ الحبر عنقه فهو لن يضاهي، أو يتجاوز عتبة الكبرياء والقيم الإنسانية الرفيعة والمتجذرة في لحظة افتتاح الإمارات العربية المتحدة المبنى الجديد لكاتدرائية النبي إلياس الأرثوذكسية، في إمارة أبوظبي، وبحضور بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر (2018/‏1/‏18). لحظة ضخت بإنسانها، وزمانها، ومكانها، دماء الحضارة الراقية في شرايين المستقبل.
الكاتدرائية ترتفع فوق أرض منحها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لمطرانية الروم الأرثوذكس، في بادرة زاخرة بالقيم النبيلة، والعقل الوازن المشبع بالخير، والمحبة، والتآلف، والانسجام. سأضع نقاطاً…. ليملأها القارئ معي بالصفات الإيجابية التي تستحقها مبادرات من هذا الطراز.
لا تشبه تلك اللحظة اللحظات الأخرى المشابهة التي تصدرت فيها دولة تعبق بالتسامح والأصالة، المرتبة المتقدمة بين دول العالم.
لماذا؟ لا لأنها خطوة تفوح بالسلام والتسامح، واحترام مختلف المعتقدات والأديان، وحسب، بل لإنها جاءت في زمن ثقيل، ومستورد، وخاص جداً حافلٍ بالعتمة العربية، والضياع العالمي، وتفجير الكنائس، والجوامع، وتفشي الصراعات المذهبية. وقعت بعد اللحظة الميلادية القاسية بحثاً عن القدس التي تسلخ سلخاً من القلوب والحناجر البشرية في إعادة تحديد جارح لموقع فلسطين، والأقصى، وكنيسة القيامة. جاءت تعيد إلى الأذهان صورة النبي إيليا يصرع التنين في زمن بائس، ما زالت أشجار الميلاد الحزينة متروكة لم توضب في زوايا البيوت تنتظر جديد فلسطين، وتصلي للقدس. ما برحت صرة الهدايا معلقة في فوهة المدخنة بعدما ذوى الموقد بإرباك الأقصى وكنيسة القيامة. وما زال الأطفال والعجائز يصلون بمسابحهم الطويلة لصيانة المكان المقدس المرتسم في تاريخ الإيمان دمغة للوحدانية الحقة.
هناك يتآكل المكان ويقضم «ترامبياً» بالمعنى الديني والوطني والسياسي ويختفي المولود. وتتحول فلسطين من الموقد إلى النشيد العام، ويتحول الفلسطينيون في الأرض إلى تجديد أعيادهم في الدمعة والجرح والانتظار وشد الدماء والأعصاب، ويتحول الموقف العربي والعالمي إلى فصاحة الانقسام والشعور بالعجز الملفوف بالقصائد.
صحيح أن الطفل الناصري ولد في مذود فلسطيني معلناً أن مملكته، أي مكانه ليس في هذا العالم، لكن الكنائس عمت الأرض، والأذهان، والسلوك، بالمعنى الاجتماعي والسياسي للصراعات السياسية وطموحات الشعوب والدول. صرنا نجد الكاثوليك يحجون نحو مغارة سانت لورد، والبروتستانت يخرجون من الأمكنة كلها نحو المكان السياسي المحصور بمقبرة جيتسبرج، وبما يرضي اليهود.
لقد ألفت «الحضارة» الدولية سلوك التعالي الإنساني، والاستهزاء بتاريخ الخطب التي سارت فيها الساحات والشوارع مثل البشر، وتشلعت فيها الألسن والمخيلات، والحناجر، وملت النيران من حرق الصور والأعلام، وتعب أهلنا من السجون والمنافي والتشرذم طلباً لتسهيل طرق العدالة والحرية والديمقراطية التي شاعت بعدما قرعت أبواب الدنيا الكلمات التوحيدية الثلاث مجبولة بتراب الشرق. أضاع العالم نجمته التي تدخله إلى أعلى رأسه وشموخه الفارغ، وما أن يدخل الإنسان في جلده لا في الغابات الدولية الموحشة حتى يجد ما يبحث عنه ولو كان في سجن أو كهف أو مذود، فكيف إذا كان النبي إيليا أمامه يلوذ بحمى العقل في سماح الخليج؟ الجواب: يمتلئ الصدر والزمان بالغبطة.
drnassim@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى