عِبْرَةٌ سودانية
كمال الجزولي
حين راحت شمس القرن التَّاسع عشر تميل للغروب، كانت الثَّورة المهديَّة ترسي مداميك أوَّل دولة سودانيَّة موحَّدة، وعلى رأسها الخليفة عبدالله، خليفة قائد الثَّورة وملهمها الذي ما لبث أن رحل بُعيد نصرها المؤزَّر على الاستعمار التُّركي عام 1885م. غير أن الخليفة أبدى تجاه عشيرته الأقربين (التَّعايشة) ليناً أفضى إلى زعزعة (الدَّولة) الوليدة، ومهَّد، طوال أربع عشرة سنة، لإسقاطها تحت سنابك الغزاة الإنجليز في سبتمبر 1898م. فعشيرة الخليفة أسَّست لنفسها (الحزب التَّعايشي)، منذ البداية، كدولة داخل الدَّولة، مطلقة سياسات التقريب والإبعاد، والإقصاء والإحلال، ما أهدر المعايير الثوريَّة القديمة لحساب التَّقديرات العشائريَّة الأوتوقراطيَّة، وأعلى من شأن الولاء على حساب الكفاءة!
شتّتت تلك السِّياسات صفوفاً كانت شديدة التَّراص، وخلخلت جبهة داخليَّة كان توحيدها أهمَّ مآثر الثَّورة، وأحلت الضَّغينة الدُّنيويَّة محلَّ المحبَّة العقيديَّة، وشحنت بالبغضاء نفوساً لطالما تطايبت، سابقاً، (في شأن الله). وتلازمت، مع تلك السِّياسات، حملة اعتقالات وتصفيات ونفي طالت (أولاد البَلَد) عامَّة، والأشراف، عشيرة المهدي، خاصَّة، قبل أن تنقلب لتطال حتَّى (أولاد العَرَب) أنفسهم!
لم تستثن استراتيجيَّة الخليفة البُعد الدِّيني، حيث مهَّدت للحملة بأن رسمت حول شخصيَّته هالة كثيفة من ترميزات غيبيَّة تشدُّها إلى مراكز الاستلهامات الرُّوحيَّة في الوعي الاجتماعي العام. وإن هي إلا أشهر قلائل، بعد ذلك، حتَّى بدأت حملة إضعاف خصوم الخليفة (الأشراف)، وعلى رأسهم الخليفة شريف كبير أقارب المهدي، وتصفيَة (راياتهم) من (الجِّهاديَّة)، القوات الخاصَّة الضَّاربة، ومن العتاد، ثم إبعادهم من مجلس الخليفة، بل وتخفيض مخصَّصاتهم!
لكن تلك السِّياسات، وإن ضمنت تَّركيزاً نسبيَّاً للسُّلطة فى يد (الحزب التَّعايشي)، راكمت من الغبن ما لم يكن ممكناً للصدور أن تستمر في كبته، فانفجر الصِّراع، بأكثر أشكاله دمويَّة، بين (أولاد البَلَد)، بقيادة (الأشراف)، وبين (أولاد العَرَب) بقيادة (الحزب التَّعايشى) الذي تنصَّل عن الإقرار الثَّوري القديم ب (تعدُّد الرَّايات) في (وحدة الجَّيش)، وجحَد مشروعيَّة المغايرة، ما حدا ب (الأشراف) لإنشاء تنظيمهم السِّري، وجمع المقاتلين والسِّلاح. بالنَّتيجة استيقظت أم درمان، صباح الثالث والعشرين من نوفمبر 1891م، على البنادق السُّودانيَّة مصوَّبة، لأوَّل مرَّة، إلى الصُّدور السُّودانيَّة، كمعلم بارز في عمليَّات إضعاف الدَّولة المهديَّة لحساب التَّآمر الاستعماري الذي بلغ ذروته في سفح جبل (كرري) بعد أقلِّ من سبع سنوات من ذلك اليوم الكئيب!
انهزم (الأشراف)، واقتيد الخليفة شريف إلى السِّجن مضروباً، مهاناً، ومُكبَّلاً بالحديد، ولم يخلُ التَّعريض به، كالعادة، من بعض صور التَّعبير (الدِّيني) عن الصِّراع (السِّياسي)، حيث أصدر مجلس من أكابر الدَّولة منشوراً ممهوراً بتوقيعاتهم وأختامهم يزعمون فيه أنه «لم يبال بإدخال الخلل في الدِّين وشقِّ عصا المسلمين»!
لكن أكثر ما يستدعي التأمُّل المتمكِّث، في هذا السِّياق، هو عبرة الأمير (التَّعايشي) الزَّاكي طمل! كان عاملاً على منطقة فشودة عندما نُفي إليها الأشراف المعتقلون، فنفَّذ فيهم أوامر الخليفة بضربهم إلى حدِّ الموت بلا أدنى ورع أو رحمة، بل وأصدر الخليفة منشوراً بإخبار عن (حضرة نبويَّة) تبارك مصيرهم! لاحقاً ابتُعث الزَّاكي لمجابهة الطليان في منطقة القضارف بشرق السُّودان. لكن نفراً مِمَّن كانوا يكيدون له سعوا بوشاية لدى الخليفة عن ميله لحياة الدِّعة والتَّرف! فأمر، فكُبِّل بالحديد، وألقي به في غيهب السِّجن، ومُنِع عنه الطعام حتَّى مات جوعاً! ولم يفت الخليفة أن يعرِّض به دينيَّاً، أيضاً، حتَّى بعد موته، دون أن يشفع له أنه كان قائداً (مخلصاً) نفذ، بدم بارد، قتل (الأشراف) ضرباً في فشودة! فقد قال الخليفة:
«وجدنا به عارضاً شديداً، وقيل إنه كان معه مِن سابق إلا أنه اشتدَّ عليه في هذا الوقت، وبأسباب ذلك أجرينا زجره وحبسه بالمشورة.. (و) هلك في السِّجن على صفة فظيعة، وحالة شنيعة، وبمجرد خروج روحه اشتعلت النار في جسمه، واسودَّ وجهه، والعياذ بالله»!
لكن الزَّاكي بعث من سجنه، قُبيل موته، برسالة ذات مغزى على قِصَرها إلى الأمير يعقوب، شقيق الخليفة وساعده الأيمن، طافحة بكلِّ ما يمكن أن يعتمل في النفس البشريَّة من غبن وخيبة أمل:
«قل للخليفة سيأتي اليوم الذي تحتاجون فيه لأمثالي من الرِّجال.. ولن تجدوهم»!
kgizouli@gmail.com