غزة: تحقيق في استشهادها
تأليف: نورمان فينكلشتاين
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يعتبر قطاع غزة من أكثر الأماكن كثافة بالسكان في العالم. أكثر من ثلثي سكانها من اللاجئين، وأكثر من نصفهم دون الثامنة عشرة. منذ عام 2004، أطلقت «إسرائيل» ثماني عمليات مدمرة ضدهم. فقد قُتل الآلاف، وتُرك عشرات الآلاف بلا مأوى. في غضون ذلك، أخضعت «إسرائيل» غزة لحصار غير قانوني خانق. وبناء على عشرات تقارير حقوق الإنسان، يقدم الكتاب الجديد لنورمان جي. فينكلشتاين بحثاً دقيقاً في استشهاد غزة، ويفضح اعتداءات «إسرائيل» التي تشكل في الواقع انتهاكات صارخة للقانون الدولي.
يأتي الكتاب في 440 صفحة، وهو صادر في يناير 2018 عن مطبعة جامعة كاليفورينا باللغة الإنجليزية. بعد المقدمة يحتوي على أربعة أجزاء: الجزء الأول: عملية الرصاص المصبوب، ويأتي في أربعة فصول هي: الدفاع عن النفس؛ ردع العرب وردع السلام؛ التحكم في الدوران؛ دروع بشرية. الجزء الثاني: تقرير جولدستون، ويأتي في فصلين: شاهد عيان يهودي؛ الشاهد الرئيس يتراجع. الجزء الثالث: قافلة سفينة «مافي مرمرة» (أسطول الحرية)، ويتضمن ثلاثة فصول هي: القتل في البحار؛ إخفاء الجريمة 1: تقرير توركيل؛ إخفاء الجريمة 2: تقرير فريق الأمم المتحدة. الجزء الرابع: توقف الطاغوت، ويأتي في ثلاثة فصول هي: «إسرائيل « لها الحق في الدفاع عن نفسها؛ الخيانة الأولى: منظمة العفو الدولية؛ الخيانة الثانية: مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. خاتمة.
يقول الكاتب بداية: «غزة، كما وصفها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، بأنها «سجن في الهواء الطلق». والسجان «الإسرائيلي» هو المسؤول.
في المخيلة الشعبية التي تمتصها الدعاية الحكومية، والتي يتكرر صداها من قبل كل شخص في السلطة، دائماً تكاد «إسرائيل» أن ترد على «الإرهاب» أو توجه ضربة انتقامية ضده. ولكن لا الحصار اللاإنساني واللاقانوني الذي فرضته «إسرائيل» على غزة ولا «العمليات»المميتة قد أطلقت ضدها نيران صواريخ حماس. كانت هذه قرارات سياسية «إسرائيلية» انبثقت عن الحسابات السياسية «الإسرائيلية»، والتي اعتبرت فيها أعمال حماس العسكرية عاملاً باطلاً.
في الحقيقة، «إسرائيل» في أكثر الأحيان لم تتفاعل مع تقاعس حماس: رفضت الحركة الإسلامية تقديم الذريعة «الإرهابية» التي تسعى إليها «إسرائيل» من أجل إطلاق عملية، كان مؤشّرها سياسياً وليس عسكرياً (دفاعاً عن النفس). بطبيعة الحال، إذا كانت غزة «ستغوص في البحر فقط» (كما قال الحائز جائزة نوبل للسلام إسحاق رابين)، أو إذا سلمت من جانب واحد مصيرها إلى النزوة «الإسرائيلية»، فإن «إسرائيل» لن تعاملها بوحشية. لكن باستثناء هذه الخيارات، لا تستطيع غزة ممارسة سوى قدر ضئيل، أي القليل، من الوكالة التي يتم تخصيصها لأشخاص محتجزين في حالة من الاستعباد».
سياسات مرعبة
محور هذا الكتاب هو تناول السياسة التي دفعت إلى استشهاد غزة، ويكون البعد الاقتصادي فيه شاملاً ومقسّماً بمهنية عالية، ويعلق الكاتب على ذلك: «لا يمكن لأي مراقب إلا أن يُصدم من رزم الأوراق التي استهلكت على تحليلات الاقتصاد في غزة ووصفاته، على الرغم من أن اقتصادها وهمي أكثر من كونه واقعياً. أفاد البنك الدولي في الفترة 2015-2016 بأن غزة»تعتمد الآن على نحو 90 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على النفقات من جانب الحكومة الفلسطينية والأمم المتحدة وغيرها من التحويلات المالية الخارجية ومشاريع المانحين. لا شك أن أولئك الذين قاموا بتجميع هذه التقارير الاقتصادية كانوا مدفوعين بالرغبة في فعل الخير، على الرغم من أن معظمهم استسلم في النهاية للإملاءات «الإسرائيلية»».
ولكن إذا بقيت غزة، فذلك بسبب الإعانات الأجنبية التي يتم تقديمها بالتزامن مع التهدئة العرضية – إلى الضجة الدولية المبتذلة – للسجان «الإسرائيلي». وبالفعل، فإن المفارقة تكمن في أنه مع ظهور كل تقرير اقتصادي جديد، فإن يوم «إعادة التنمية» في غزة يقترب أكثر. من الصعب مقاومة الفكرة القائلة إن غزة كانت ستستفيد أكثر لو أن الوقت والطاقة والمصروفات المستثمرة في هذه التقارير الدقيقة والمملوءة بالتفاصيل الذهنية قد تم تحويلها ببساطة إلى بركة سباحة في الهواء الطلق، داخل السجن في الهواء الطلق، لمصلحة أطفال غزة المحرومين.
ويشير فينكلشتاين إلى أنه مع ذلك، فهذه التقارير تشكل سجلاً لا ينقطع من الشهادات على الرعب الذي ألحق بغزة. إنها نصب تذكاري خالد للشهداء واتهام أبدي ضد معذبيهم. ويضيف: «إن تقرير حقوق الإنسان عن غزة، والذي يشكل الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب، يعكس المحتوى وقد عانى مصير هذه التقارير الاقتصادية. ويمكن للعدد الهائل من تقارير حقوق الإنسان أن تملأ الآن مكتبة متوسطة الحجم؛ وقد اتبعت بشكل عام معايير الدقة الصارمة، وهي تسجل قصصاً مروعة عن المعاناة والبؤس، من جهة، والفائض الإجرامي والقسوة الفظيعة، من جهة أخرى. لكنه تم تجاهلها إلى حد بعيد خارج مجموعة ضيقة من المتخصصين، وفي النهاية استسلم مجتمع حقوق الإنسان نفسه للطغمة «الإسرائيلية». وعلى الرغم من ذلك، فإن التقارير تشكل المورد الأساسي لأولئك الذين يهتمون بالحقيقة والذين يعتبرون الحقيقة ثمينة، حتى وإن كانوا غير مستغلين بشكل كبير، فإنهم يشكلون السلاح الأكثر قوة في ترسانة أولئك الذين يأملون في تعبئة الرأي العام، لإنقاذ قدر من العدالة.
كارثة إنسانية
ما أصاب غزة هو كارثة إنسانية من صنع الإنسان. وهذا التطاول عليها لم يحدث في عتمة الليل، بل في وضح النهار وعلى مرأى من الجميع، وفي ظل تواطؤ الكثيرين كما يقول الكاتب الذي يسعى إلى دحض الكذب المحيط بقضية غزة عن طريق فضح كل الأكاذيب الصغيرة منها والكبيرة. ويقول: «إذا كان الشر في التفاصيل، فإنه لا يمكن مواجهته والتخلص منه إلا في إجراء التحليل المنطقي وتقديم الأدلة».
ويوضح كيف أن حراس القانون الدولي – من منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة – أخفقوا في نهاية المطاف فيما يتعلق بغزة. أحد أكثر استنتاجاته إثارة للقلق هو أنه بعد تراجع القاضي ريتشارد جولدستون بتقريره عن الأمم المتحدة، خضعت منظمات حقوق الإنسان للقوة «الإسرائيلية الساحقة»، رغم أن المعلومات الواردة فيه، لم يكن هناك مهرب من صحتها ودقتها.
ويتساءل كيف كان لأبواق الدعاية «الإسرائيلية» أن «تلعب بثقة أوراقهم المعتادة»، وتطلق مصطلحات ضد جولدستون مثل: «معادة السامية»، «يهودي يكره نفسه»، و«ناكر للهولوكوست»، ولماذا يدير جولدستون ظهره للصهيونية، ويضحي بموقفه الاجتماعي الجدير بالثقة في هذا المجتمع ويواجه ردوداً عنيفة، ما لم يشعر بأنه مجبر بالتزامه بالقانون؟ يقول فينكلشتاين: «الحقيقة كانت أن لديه خيار من الناحية النظرية فقط. إذا انتخب جولدستون للدفاع عن «إسرائيل» ضد ما لا يمكن الدفاع عنه، لكان قد ارتكب الانتحار المهني». ومع ذلك، فقد فعل جولدستون ذلك: خاطر ب «ارتكاب الانتحار المهني» بالانسحاب في أبريل 2011 في خيانة للحقيقة والنزاهة المهنية. في الجزء الأخير من الكتاب حول القاضي المثير للجدل، يؤكد الكاتب أن جولدستون وقف بمفرده على مسألة استبعاده.
ويشير إلى أنه حينها لم يجد مندوبو منظمة العفو الدولية وخبراء الأمم المتحدة، ناهيك عن الأعضاء الثلاثة الآخرين في فريق جولدستون، أي أساس لرده، وعبروا عن مشاعر مختلطة من خيبة الأمل والإحباط. ويرى الكاتب هنا أن حلقة جولدستون تمثل منعطفاً حرجاً في كيفية اختيار مجتمع حقوق الإنسان عناصرها لتغطية غزة.
بعد جولدستون، راقب مجتمع حقوق الإنسان بصمت ما يحدث في غزة. ومن الجدير بالذكر، عندما قرأ فينكلشتاين خمسة تقارير كبيرة من هيومن رايتس ووتش عن عملية الرصاص المصبوب في عام 2009، فقد روعه أن يجد أن منظمة هيومان رايتس ووتش لم تنشر سوى تقرير واحد، مكون من خمسة عشر صفحة حول الحافة الواقية، وذلك خوفاً من تداعيات اتباع خطى جولدستون، بالتالي يجد أن مجتمع حقوق الإنسان قام بتكميم لسانه.
خيبة أمل
الآن أصبح اللوبي «الإسرائيلي»المقيم في الولايات المتحدة أكثر يقظة من أولئك الذين تجرأوا على ارتكاب «حرب قانونية» ضد «إسرائيل»، وهو ما يعرِّفه فينكلشتاين في كتابه بأن الأمر لديهم أصبح «فكرة شائنة بأن إسرائيل ينبغي أن تخضع للمساءلة القانونية عن جرائمها». وحتى مع ذلك، فإن مجتمع حقوق الإنسان أثبت أنه يمتلك عموداً فقرياً هشاً عندما يحمل قضية غزة على أكتافه، وهذا ما يجده فينكلشتاين خيبة أمل كبرى، إذ كان يتوقع المزيد منهم.
كما لم يتفاجأ فينكلشتاين من تقرير لجنة الأمم المتحدة حول الغارة على أسطول الحرية الذي نُشر بعد ستة أشهر من التقرير «الإسرائيلي»، وقاد لجنته الرئيس الكولومبي السابق ألفارو أوريبي، الذي اشتهر برغبته في إقامة علاقات عسكرية أوثق مع «إسرائيل»، إذ أوضح دفاعاً عن «إسرائيل» من خلال إخفاء القانون وإظهار أن غزة لم تكن «محتلة» ولكن وضعها القانوني «غير مؤكد». علاوة على ذلك، زعم التقرير أن الحصار لم يكن غير قانوني لأنه على الرغم من أنه منع دخول المواد الغذائية الأساسية إلى غزة، فإن «إسرائيل» لم تكن تنوي هذا من أجل تجويع السكان.
يشعر الكاتب أنه بالنسبة لمنظمة العفو الدولية وغيرها من منظمات حقوق الإنسان التي انحنت إلى هذا المستوى الهابط (ما بعد جولدستون)، فإن عملها «خيانة» واضحة لمبادئ وقيم حقوق الإنسان.
ويتناول في الأجزاء الأخيرة من عمله الذي يوضح فيه الاستراتيجيات المتكررة التي استخدمها تقرير منظمة العفو الدولية عن الحافة الواقية لإعفاء «إسرائيل»، رغم أنه مراراً وتكراراً أوضحت دراسات الحالة المروعة لمنظمة العفو الدولية بلا جدال الاستنتاج بأن «إسرائيل» تعمدت مهاجمة المدنيين، إلا أن التقرير يحرّف هذا الاستنتاج ويصدر حكماً مخففاً.
كما يقدم أمثلة أخرى مثل إطلاق «إسرائيل» لصواريخ على مخيم للاجئين وقتلها أربعة من أفراد عائلة من بينهم ثلاثة أطفال، أحدهم كان يوسف البالغ من العمر 10 سنوات تم تفجير نصفه العلوي، حينها أعلنت منظمة العفو أن هذا «هجوم غير متناسب». رغم أن منظمة العفو نفسها وجدت أنه «لا توجد معلومات تشير إلى أن أي من الرجال الذين كانوا في المنزل كانوا أعضاء في جماعة فلسطينية مسلحة». وهنا يؤكد فينكلشتاين الذي يقيّم ويقتبس باستفاضة قائلاً: «إذا لم يكن لدى منظمة العفو الدولية أي معلومات»، فقد كان هجوماً متعمداً على المدنيين والأهداف المدنية.
ويجد الكاتب في النهاية أن المنظمات الحقوقية باتت تعمل خارج القانون فيما يتعلق ب «إسرائيل». فاستناداً إلى الأدلة التي جمعوها، كان ينبغي على منظمة العفو الدولية أن تخلص إلى أنه كان من غير المعقول الشك في أن «إسرائيل» تعمدت مهاجمة المدنيين في ظل غياب هدف عسكري. ورغم أن الكاتب ينتقد بشدة هذه الممارسات للمنظمات الحقوقية، إلا أنه يناشدها في الوقت ذاته ألا تضل الطريق أكثر من ذلك، وتعود لتكون مدافعة عما تشهده غزة من اضطهاد، وأن تكون شاهدة على الحقيقة المؤلمة وتحفظها في الذاكرة الجمعية.
نبذة عن المؤلف:
نورمان فينكلشتاين ولد في 8 ديسمبر 1953. بروفيسور متخصص في السياسة الأمريكية، وهو ناشط ومؤلف. تتركز اهتماماته البحثية في مجالات أبحاثه الأساسية على الصراع «الإسرائيلي»- الفلسطيني و«الهولوكوست»، وجاء هذا الاهتمام من تجارب والديه اللذين كانا من الناجين من «الهولوكوست».
تخرج في جامعة بينغهامتون وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة برينستون في عام 1988. وقد شغل مناصب في هيئة التدريس في كلية بروكلين، وجامعة روتجرز، وكلية هانتر، وجامعة نيويورك، وجامعة ديبول، حيث كان أستاذاً مساعداً في الفترة من 2001 إلى 2007. وهو مؤلف لعشرة كتب ترجمت إلى 50 لغة أجنبية، منها: «صناعة الهولوكوست: تأملات حول استغلال المعاناة اليهودية» (2000)؛ «الطريقة والجنون: القصة الخفية لاعتداءات «إسرائيل» على غزة» (2014)؛ «معرفة الكثير: لماذا تقترب الرومانسية اليهودية الأمريكية مع «إسرائيل» من نهايتها» (2012)؛ «ماذا يقول غاندي عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة» (2012)؛ «صورة وواقع الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني» (1995)؛ «صعود وسقوط فلسطين: سرد شخصي لسنوات الانتفاضة» (1996).