في مسألة الأقليات
محمد نورالدين
تجتاح قضية الأقليات العالم العربي والإسلامي. ومع أنها موجودة تاريخياً وبقوة؛ لكنها تفاقمت وباتت ركيزة الكثير من مخططات الفتنة والتقسيم في مرحلة ما سُميَّ زوراً وبهتاناً ب«الربيع العربي». وقد استخدم مصطلح الأقليات بكثرة في السجالات والنقاشات الفكرية والسياسية.
وهنا نقف على مغالطات شائعة منها:
1- دائماً ما ينظر إلى الأقليات من زاوية سلبية على أنهم المشكلة، فيطلقون على قضيتهم مصطلح «مشكلة الأقليات»؛ لكن نحن هنا أمام مغالطتين تتصلان أولاً بمفردة «مشكلة» والثانية بمصطلح «الأقليات». فلا هي بمشكلة ولا هي بمشكلة أقليات. ففي النهاية؛ الأقلية أية أقلية، أكانت عرقية أو دينية أو مذهبية؛ هم جماعة ترتبط فيما بينها بخصائص وخصوصيات مشتركة خاصة بهم وتميزهم، بمعنى الاختلاف لا التمايز، عن الجماعات الأكثر عدداً. وعندما يخرج هؤلاء للمطالبة بما يعتقدون أنه حق فطري ومكتسب بالطبيعة، من التعبير عن هويتهم بحرية لغوياً وثقافياً وربما سياسياً، ولما لا؟، يواجهون بمعارضة الأكثرية المحيطة والحاكمة. وغالباً ما لا تقتصر هذه المعارضة على سلميتها؛ بل تتعداها إلى الاضطهاد والقمع والإبادة المتعددة الطرق.
في هذه الحالة، وهي الحالة الشائعة في مجتمعاتنا خلا استثناءات نادرة، يمكن لنا أن نخرج من تسمية مشكلة الأقليات ولنضع الكرة عند الأكثريات، وليكن المصطلح الأدق هو مشكلة الأكثريات، وليس مشكلة الأقليات. المشكلة بالتالي هي عند الأكثريات، وما أكثرها، وليس عند الأقليات.
2- من النظرات الشائعة والسائدة بقوة ربط مصطلح الأقليات بالخارج والأطماع الاستعمارية واستخدامهم أداة لتحقيق مآرب قد تحقق بعض مطالب الأقليات؛ لكن تخدم أساساً المصالح الخارجية الاستعمارية.
لكن هذه نظرة ترتبط أساساً بالنتائج والنهايات في تجاهل شبه تام للمقدمات والمسببات الأساسية لظهور ما يُسمى ب«مشكلة الأقليات».
أحدهم وصّف «مشكلة الأقليات» بالمياه الجوفية الموجودة أساساً في باطن الأرض. وهذا تشبيه دقيق للغاية، ليس من مشكلة تنطلق من فراغ أو تظهر فجأة بين ليلة وضحاها. مشكلات البيت الداخلية هي التي تجعل الخارج، القريب والبعيد، يتسلل ويتغلغل إلى الداخل؛ ليجد عناصر الاستثمار والاستغلال جاهزة لا تحتاج سوى إلى القليل من التغليف بعناوين براقة وجاذبة؛ مثل: حقوق الإنسان والحرية.
المياه الجوفية موجودة ومن آلاف السنين. وما وصلنا إليه- اليوم- هو مجرد نتاج ممارسات ومسارات امتدت عقوداً؛ بل لقرون. حتى إذا جاء المستعمر الخارجي لم يكن بحاجة سوى إلى بعض الحَفر، وأحياناً أكثر، لتخرج المياه الجوفية فوارة وبدفق قوي. المشكلة إذاً كامنة فينا ومنذ قرون.
3- لا علاقة لقضية الأقليات بالتخلف أو التقدم الإنمائي أوغياب الديمقراطية والحريات فقط. ففي العديد من الدول الغنية والمتطورة، التي تسود فيها الديمقراطية وحرية التعبير عن الهوية تنفجر مثل هذه القضية. وأبرز الأمثلة على ذلك بلجيكا وكندا وبريطانيا وأسبانيا.
ففي بلجيكا انفجر الصراع بين الفال والفلامان، وكل طرف يريد الانفصال عن الآخر، رغم أن بلجيكا دولة أوروبية وعاصمة الاتحاد الأوروبي، ولا تنقصها رفاهية وديموقراطية وحرية.
وفي كندا يكرر أهالي مقاطعة كيبيك من ذوي الثقافة الفرنسية المحاولات للانفصال عن كندا عبر استفتاءات؛ لكن هذه المحاولات كانت تفشل في اللحظة الأخيرة. وكان الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول قد دعا في زيارة له إلى كيبيك ل«كيبيك حرة مستقلة».
وفي بريطانيا، تسعى إسكتلندا دائماً إلى الانفصال. وفي أسبانيا كان المثال الأخير في مقاطعة كتالونيا، التي صوت سكانها على الاستقلال دون القدرة على تنفيذ ذلك. ولا ننسى مطالب رابطة الشمال الإيطالي بالانفصال.
ونحن نذكر بالتحديد هذه الدول؛ لأنها تنعم برفاهية كاملة معيشية وصحية ومساواة المواطنين أمام القانون خارج أي انتماء عرقي أو ديني. كذلك فإن حرية التعبير مصونة بالكامل، وفيها ديموقراطية متطورة جداً.
ومع ذلك يذهب بعض من فيها إلى المطالبة بالانفصال والعيش مستقلين في دولة خاصة بهم. وهذا يجعلنا نسوق الكلام إلى أن نزوع بعض المجموعات المتجانسة في داخلها إلى الاستقلال؛ هو نزعة ليست عنصرية تنطبق على الأقليات كما على الأكثريات. فالأكثرية في النهاية هي مجموعة بشرية نجحت في ترجمة نزعة إنسانية اسمها الاستقلال إلى واقع. وكل ميزتها أنها أكثر عدداً من مجموعات نطلق عليها اسم الأقليات.
في مجتمعاتنا نفتقد بالطبع للديموقراطية والحريات والمساواة أي لثقافة الاعتراف والمصالحة؛ لكننا نفتقد أيضاً للرفاهية والتنمية؛ ليسود التخلف والفقر والأمية، ما يفاقم من «مشكلة الأقليات»، ويحوّلها إلى حلبة صراع دموي بين الأكثريات والأقليات؛ لتزيد من عمق المشكلة.