قدسنا وليست لغيرنا
يوسف أبولوز
في 29 آذار 1888 زار المستشرق السويسري المتخصص في النقوش الإسلامية ماكس فان برشيم مدينة القدس، ومن هناك، كتب رسالة إلى أمه يصف فيها مدينة المدائن معرباً عن دهشته بالشوارع والبيوت المقدسية.. «..المبنية من الحجارة المهشرة، وتلك التي تعلو الأزقة تحت الأقواس..»، ويقول برشيم في الرسالة إن هذه المعالم تحمل ذكريات اليبوسيين واليونان والرومان.. «فهناك كنائس إلى جانب المسجد.. كل ذلك داخل الأسوار المبنية من الحجارة التي تطل على الأودية العميقة وخلفها منظر يتكون من الجبال الزرقاء..». وفي مكان آخر يتحدث عن التنوع الديني المتآلف في مدينة السلام وهو يصف لأمه تجاور الأحياء التي تتألف منها القدس.. «.. الحي المسيحي في الطرف الشمالي الغربي، كما يوجد حي الأرمن في الطرف الجنوبي الغربي، أما في الجنوب فيوجد الحي اليهودي. يضم الحي المسيحي المسيحيين الأرثوذكس وهم كثيرو العدد، ثم يأتي الكاثوليك والأرمن بمذاهبهم المختلفة، ثم البروتستانت..».
كل هذه الألفة المقدسية بين الأديان والتي أشار إليها المستشرق برشيم قبل مئات السنوات كانت بيئة متسامحة في مكان ينبض بروح عربية فلسطينية، فقد كان أهل القدس، وما زالوا ينفتحون على الأديان والثقافات والحضارات بكل محبة ومرونة وتفاعل إنساني عظيم.. يعكس هذه الروح الثقافية الحرة البروفيسور إدوارد سعيد في كتابه العذب «خارج المكان» هذه القدس، وهذه روحها إلى أن جاء الاحتلال «الإسرائيلي» ووصل في ذروة عنصريته إلى منع الصلاة في المسجد الأقصى.. «..اليوم وفي وقت صلاة الجمعة سنكون على موعد مع الإرادة الفلسطينية التي حمت القدس في الماضي، وسوف تحميها اليوم وغداً، وفي كل مطلع شمس..».
القدس الدينية تنطوي أيضاً على قدس جمالية معمارية تراثية، وهذا ما أذهل ماكس فان برشيم من ناحية فنية، والقدس الجمالية ذات البوابات والأقواس وتزيينات الصفائح البرونزية، والفسيفساء والأعمدة..كانت دائماً موضع قراءة مكانية تأملية للمؤرخين والفنانين والمعماريين، وسوف تستند هذه القراءة دائماً إلى الجذر الكنعاني المتأصل في القدس، وفي فلسطين بشكل عام، ما يعزز التاريخ الفلسطيني وعروبة القدس، وفي الوقت نفسه الأمر الذي يسطح الرواية «الإسرائيلية» الملفقة، ويلغيها من أساسها.
القدس، إذاً، أكثر من قدس.. فهي قدس قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، وهي قدس الأثر الفلسطيني والتراث وروح المكان، وهي قدس الانتفاضات الشعبية الفلسطينية والشهداء والأسرى، وهي قدس القيادات السياسية الفلسطينية المبكرة منذ عز الدين القسام وحتى اليوم، وهي قدس الشعراء العرب لأنها أيقونتهم وفردوسهم المفقود، وهي قدس المؤرخين والأدباء والمفكرين والروحيين.. والمتوجهين إلى الله بقلوبهم وعقولهم وأرواحهم الصافية.
قدسنا نحن العرب.. وليست للاهوتي العاكف على تدوين رواية مقتبسة من الأساطير والدفائن الأحفورية الملفقة.
قدسنا نحن العرب.. وليست للعنصري المدجج بإيديولوجيا التعصب، والعنف، والإرهاب فوق تلة من السلاح المحرم، وقنطرة من الأكاذيب.
هي أيضاً، قدسنا التي تخصنا، وليست قدس المتاجرين بها حتى حولوها إلى شعار سياسي يرفع عند الحاجة، ويخفض عند الحاجة.. من قاسم سليماني الإيراني، إلى قاسم سليماني اللبناني، وإلى آخره من «السليمانيات» المذهبية الطائفية البعيدة كل البعد عن روح القدس.
y.abulouz@gmail.com