كوريا الشمالية والاستقرار الإقليمي
د. غسان العزي
يقبع استقرار شبه الجزيرة الكورية في قلب التوازنات الاستراتيجية في آسيا الشرقية. وتستمر الأزمة النووية الكورية – الشمالية وسط إخفاق كل المبادرات السلمية والضغوط والعقوبات لحلها. ففي عقد واحد، منذ العام ٢٠١٦، نفذت كوريا الشمالية خمس تجارب نووية وعدداً من عمليات إطلاق صواريخ بالستية تجريبية (عشرون في العام ٢٠١٦ وحده). وعلى الرغم من أن هذه الصواريخ ليست من النوع العابر للقارات كما يدعي النظام إلا أنها كافية للتسبب بقلق كبير لكوريا الجنوبية واليابان. ومنذ وصول كيم جونغ – أون إلى السلطة في ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١١ حققت بيونغ يونغ تقدماً ملحوظاً في مجال تحميل رؤوس نووية لصواريخ قادرة ربما على الوصول إلى الأراضي الأمريكية.
وعلى الرغم من إقرار بكين العقوبات على النظام الكوري الجنوبي في مجلس الأمن الدولي، ينظر إلى الدعم الصيني لهذا النظام على أنه تشجيع له على التطرف. ففي نظر الصين لا يمر الاستقرار في آسيا الشرقية فقط بنزع السلاح النووي الكوري الشمالي ولكن بمسائل أخرى مثل التفكير بإعادة توحيد الكوريتين وشروط تطبيقها عبر إعادة النظر في التواجد العسكري الأمريكي ونظام التحالف الثلاثي (سيؤول، واشنطن، طوكيو). وهنا لا بد من التخلص من أعباء الماضي التي ترمي بثقلها على الحاضر في هذه المنطقة التي لا تزال تحمل ندوباً عميقة من الصراعات الماضية، التي في رأس قائمة أولوياتها الاستراتيجية الراهنة تقليص الخطر الذي يمثله النظام الكوري الشمالي. لكن السؤال يتعلق بطبيعة هذا الخطر، هل هو عسكري أو سياسي أو الاثنان معاً؟
نظرياً يصنف الجيش الكوري الشمالي على أنه الرابع في العالم من حيث عديده على الأقل (أكثر من مليون جندي مواطن ينفذون خدمة إلزامية مدتها عشر سنوات). لكن نظراً إلى النوعية المتواضعة لأسلحته وعتاده بالمقارنة مع التكنولوجيا الأمريكية فإن النظام الكوري الشمالي يعتمد على استراتيجية المواجهة «غير المتساوقة» القائمة على أسلحة الدمار الشامل والقوات الخاصة والحرب السيبرانية. بالنسبة للكثير من المراقبين فإن البرنامجين البالستي والنووي معطوفان على سياسات النظام يشكلان قنبلة موقوتة قد تنفجر وتؤدي إلى صراع إقليمي مفتوح.
إن تشديد العقوبات الدولية غداة التجربة النووية الخامسة التي نفذتها بيونغ يونغ في سبتمبر/ أيلول ٢٠١٦ كان يهدف إلى دفعها للتوقف عن الاستفزازات والدخول في مفاوضات جدية حول برنامجها النووي، الذي هو ثمرة جهود عمرها أكثر من ثلاثين عاماً، مع إدارة أمريكية تقطع مع استراتيجية أوباما حول «الصبر الاستراتيجي». من هنا توقع المراقبون أن يستمر النظام الكوري الشمالي في مواقفه الاستفزازية وتهديد جيرانه وربما الولايات المتحدة نفسها.
فمنذ عام تقريباً يفاخر الزعيم الكوري الشمالي بأنه قادر على ضرب الأراضي الأمريكية وسط تزايد في إيقاع التجارب الصاروخية البالستية. ومن الجهة المقابلة فقد شهدنا تصعيداً واضحاً بل تهديدات مباشرة من قبل الرئيس ترامب باللجوء إلى «كل الخيارات» ومنها العسكري بل والنووي أيضاً ضد كوريا الشمالية. وفي هذا الإطار يقبع نشر نظام الدفاع الواقي من الصواريخ «ثاد» في كوريا الجنوبية في مارس/ آذار الماضي. وهذا ما أثار عاصفة من الاحتجاجات الصينية. فكوريا الشمالية تشكل، مع تايوان، أحد مواضيع الخلاف الأساسية في الرؤيتين الاستراتيجيتين الأمريكية والصينية، ومحركاً لسباق على التسلح في آسيا الشرقية.
إلى اليوم لم يعد الأمريكيون إلى نغمة «تغيير النظام» التي كانت ترددها إدارة بوش الابن التي وضعت كوريا الشمالية في «محور الشر» إلى جانب العراق وإيران وقتها. رغم ذلك فإن عجز الصين والولايات المتحدة الواضح عن إقناع بيونغ يونغ بالعودة إلى المفاوضات متعددة الطرف يشكل عامل قلق إضافياً حيال نوايا النظام الكوري الشمالي الاستراتيجية.
هذا النظام يستكمل بناء ترسانته النووية وصورته الاستفزازية مع الدلائل على جهوزيته لدفع الأمور إلى أقصى حدودها الدراماتيكية في آسيا الشرقية. هذا النوع من الاستراتيجية يعني أن بيونغ يونغ لا تملك خياراً سوى الاستعانة بقدراتها النووية في تهديد الاستقرار الإقليمي. لذلك فإن مخاطر الانزلاق في صراع غير محسوب لا يمكن استبعادها. رغم ذلك فان محاولة إسقاط النظام الكوري الشمالي تحمل مخاطر جمة بسبب الظروف السياسية والعسكرية التي تضع حلفاء الولايات المتحدة وجنودها المنتشرين على الأرض في قلب الخطر. في نظر واشنطن فان جنودها الثلاثين ألفاً الموجودين في كوريا الجنوبية والخمسين ألفاً المنتشرين في اليابان، هم رهائن للابتزاز الكوري الشمالي.
في الماضي نجح كيم جونغ – ايل والد الزعيم الحالي، في الإفادة من خوف واشنطن من السلاح النووي لإجراء مفاوضات معها فاشترى بذلك وقتاً كافياً لتطوير برنامجه النووي. لكن الولد لا يسعى إلى التفاوض بقدر سعيه إلى استخدام هذا الإرث النووي وتطويره إلى الحدود التي يغدو معها قادراً على تأمين حصن حصين ونهائي لنظامه الحديدي.
هذا على المستوى الخارجي، أما في الداخل فان اغتيال الأخ غير الشقيق لكيم جونغ – أون في كوالالمبور في فبراير/ شباط ٢٠١٧ أعاد إلى الواجهة مسألة استقرار النظام وفرضية الصراعات البينية في دائرته الضيقة وهواجسه من السقوط بمؤامرة داخلية أو هجوم خارجي. لكن مهما كانت الأسباب والظروف فان سيناريو السقوط هذا لا تحبذه أية قوة إقليمية وذلك بسبب الفوضى التي قد يتسبب بها والخوف من أن تقع الأسلحة النووية في أيد خطيرة.