كيف تتخذ الإدارة الأمريكية قراراتها؟
حافظ البرغوثي
ثلاثة رؤساء تعاقبوا على البيت الأبيض هم بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما استقبلوا ياسر عرفات عشرات المرات وكذلك خلفه الرئيس أبو مازن وزار كل من كلينتون وأوباما غزة والضفة ومع ذلك ظل مكتب منظمة التحرير غير دبلوماسي ويمدد له كل ستة أشهر باعتبار أن المنظمة تحت الاختبار لأنها «إرهابية» وفقاً للقانون الأمريكي، مع أن اتفاقات أوسلو وقعت برعاية كلينتون ، ولم ينفذ الاحتلال منها شيئاً حتى تاريخه، وظل موضوع نقل السفارة الأمريكية الذي اتخذه الكونجرس سنة 1995إلى القدس يمدد تأجيل تنفيذه كل فترة ، لكن الرئيس الأمريكي ترامب الذي رفع شعار النقل ، أجله بعض الوقت ثم ها هو يقدم عليه فجأة وكأنه يفسد طبخته التي يتغنى بها منذ تسلمه الحكم ألا وهي «طبخة القرن».
لا أحد يعلم أسلوب ترامب في التفكير فهو فجائي الخطوات، وكان مستبعداً أن يقدم على هذه الخطوة قبل الإعلان عن أفكار ما يسمى «صفقة القرن» الموعودة ، لكنه استبق الأمور كمن يحكم على صفقته بالفشل مبكراً، ووصل به الأمر إلى أن يوجه قبل أسبوع دعوة إلى الرئيس الفلسطيني أبو مازن لزيارة واشنطن في الخامس من هذا الشهر أي قبل يوم من إعلانه وكأنه أراد إحراجه والقذف بقنبلته حول القدس بحضوره للإيهام بوجود موافقة على ما قاله، لكن الرئيس الفلسطيني رفض تلبية الدعوة. ففي خطابه ركز ترامب على يهودية القدس وكأنه هنا يتجاهل قدسيتها الإسلامية والمسيحية ويخصها باليهودية عازفاً على لحن يطرب له اليمين «الإسرائيلي» وهو يهودية «إسرائيل» ونافياً وجود أكثر من 28 في المئة من السكان من غير اليهود وهم فلسطينيون أصليون ومسيحيون عرب. وسبق للرئيس الفلسطيني أن شرح هذه النقطة في لقائه مع ترامب عندما استقبله في البيت الأبيض، حيث سأله ترامب، لماذا ترفضون الاعتراف بـ«إسرائيل» دولة يهودية؟ فأجابه لأن هناك نسبة كبيرة من المسلمين والمسيحيين تزيد على 28 في المئة، فدهش ترامب وكأنه يسمع بهذا لأول مرة ونظر في عيون مستشاريه.
وهو بهذا الاعتراف كمن يشعل فتيل الصراع الديني ويغلق الباب أمام احتمالات التسوية السلمية لأنه اشترط في كلمته أن يتم تحديد حدود القدس عاصمة «إسرائيل» بالتفاوض بين الأطراف واشترط تنفيذ حل الدولتين بالتوافق بين الطرفين، وكلنا نعلم أن التوافق بات مستحيلا لأن بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال فهم من كلام ترامب فقط أن القدس كلها عاصمة «إسرائيل» وما تلاها من كلام عن السلام والتفاوض مجرد حشو مهمل .
ثمة أسباب أجبرت الرئيس الأمريكي على اتخاذ قراره هذا في توقيت كهذا، وعادة يخضع الرؤساء الأمريكيون لابتزازات خفية من جانب اللوبي اليهودي حيث حدث ذلك مع الرئيس كينيدي الذي ما إن تحدث عن حل عادل للقضية الفلسطينية وبدأ يحقق في المساعي «الإسرائيلية» لسرقة اليورانيوم المخصب من بلاده لامتلاك أسلحة نووية حتى اغتيل في ظروف غامضة ، ومن بعده جونسون الذي تقرب من «إسرائيل» بفضل علاقته مع يهودية غامضة ودعم عدوان سنة 1967.. مروراً بفضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي مع بيل كلينتون .
ونذكر ما أعلنه نتنياهو جهاراً عندما كان رئيساً للوزراء في نهاية التسعينات عندما زار واشنطن ولم يستقبله كلينتون الذي أدلى بتصريحات سياسية حول حل الصراع العربي «الإسرائيلي» لم تعجبه فقال نتنياهو علنا: «أقول لذلك القابع في البيت الأبيض إننا سنشعل النار من حوله»، وبعدها تفجرت فضيحة لوينسكي.
ترامب خضع لابتزاز صهيوني قوي حتى اتخذ قراره هذا. فهو ومستشاروه يتعرضون للتحقيق في قضية الاتصال الانتخابي مع الروس، والإعلام الأمريكي ما زال يناصبه العداء وهو إعلام يظل دوماً في قبضة الشبكة اليهودية المتنفذة هناك، كما أن ترامب بحاجة إلى دعم الكونجرس وليس هناك إجماع في الكونجرس إلا على دعم «إسرائيل»، فعشية قرار ترامب بشأن القدس اتخذ مجلس النواب الأمريكي قراراً بوقف المساعدات للسلطة الفلسطينية لأنها تعيل أسر الأسرى والشهداء، واتخذ القرار بالإجماع بمعنى لو عرض المشروع على الكنيست «الإسرائيلي» لحظي بمعارضة ما قد تصل لعشرين عضواً وهو ما لم يحدث في مجلس النواب الأمريكي.
ترامب يظل أسير الحلقة المحيطة به في اتخاذ قراراته وهي حلقة يهودية بامتياز من صهره كوشنير إلى المستوطن جرين بلات إلى المستوطن السفير فريدمان الذي يتعجل نقل مكتبه إلى القدس من تل أبيب. ففي محيط كهذا يتخذ ترامب قراراته بشأن القضية الفلسطينية. أضف إلى ذلك حالة الوهن التي يعيشها العالم العربي والضعف في العالم الإسلامي والانقسام في الصف الفلسطيني، فهذا وضع نموذجي لتصفية القضية الفلسطينية على مذبح فتن الربيع العربي، فكل ما حدث خلال السنوات الأخيرة من حروب وفتن كان لإعادة تحجيم القضية الفلسطينية وإنتاج دول عربية فاشلة وتدمير جيوش محيطة بـ«إسرائيل» وزرع اليأس في روح الأمة.
hafezbargo@hotmail.com