لا تسقط دموعك على الورق

يوسف أبو لوز
كان سرّ الكاتب الساخر محمد طمليه «1957 – 2008» يتمثل في ثقافته وذكائه السريع، وإلى جانب ذلك، خفة دمه، وتذوقه للنكتة، بل، وصناعتها، كما كان «صانعاً» ماهراً لبعض الأكلات التي تعود «ماركتها» له وحده، فلم يسبق لطباخ غيره أن أوجد طبخة، ذات يوم أو ذات ظهيرة يوم اسمها «السنجلية».. وما «السنجلية» يا محمد؟.. يضحك ويقول أي شيء وكل شيء.. كيس خضار مع كيس لحم بلدي، وكله على نار هادئة مع ضمة كزبرة وكمية جيدة من الفلفل الأحمر و«كلّ ولا تشبع»، ومثل محمد طمليه الشاعر السعودي الصديق عبدالله الصيخان.. الحاذق في تحضير طبخات «مركبة» لا تعرف أصلها ولا فصلها أشطر سيدة بيت.. وما هذه الأكلة يا عبدالله؟.. يقول: من اختراعي، وما أطيبه من اختراع على مائدة سريعة في الظهيرة.
من المعروف عن الشاعر محمود درويش حرفيته في تحضير القهوة بيده لضيوفه.. «..أحِنُّ إلى خبزِ أمي وقهوة أمّي..» وعلى نار هادئة، ولكن صاحب «محاولة رقم 7» كان أيضاً محترفاً في طبخ الملوخية، وسر الصنعة عنده وحده، كما كان عنده سرّ «صناعة» قصيدة تتوغل سريعاً إلى قلب قارئها..
أعود إلى محمد طلميه وهو في الأصل كاتب قصة قصيرة.. أنجز 3 مجموعات قصصية فقط، وتوجه إلى الكتابة الصحفية الساخرة. أسس جريدة سماها «قف» ولم تعمر طويلاً، وبسرعة توقفت، وهو كان سريعاً.. كان عداءً مثل سهم الريح، ولكنه لم يفلح لا في رياضة الجري ولا في كرة القدم، وأخذ يجري في الكتابة، ولأنه سريع وعداء سنعرف في ما بعد لماذا هو أكثر من ماهر.. حاذق في توليفة طبخة للغداء أوللعشاء.. بأقل ما يمكن مما كان يسميه «المواد»، وأحياناً، كيفما اتفق، كما كانت حياته.. القليل عنده هو الكثير.
شكل محمد طلميه في الأردن في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين ظاهرة الكتابة الساخرة في بلد 90٪ من شعبه جادون.. وبعضهم «لا يضحك للرغيف السخن»، كما يقول المثل الشعبي، ولكن محمد كان يطل بعمود يومي يتألف من حوالي 200 كلمة أو أقل، فيضحك القارئ الأردني من الوزير إلى الخفير، ثم يطوي القارئ الصحيفة بعد القراءة وقد سقطت دموعه على ورق الجريدة.. ضحك يشبه ضحك المتنبي.. «ضحك كالبكاء»، مع أن شخصية محمد لم تكن حزينة ولا متشائمة.. بل، هو مرح وطفولي وطائر في الهواء الطلق.. وقبل ذلك قارئ نهم ولم يكن نهماً أو شرهاً في الأكل.
محمد طلميه ابن مخيم فلسطيني، كتب ذات يوم قصة قصيرة عن ولد وَجَدَ لَهُ أبوه حذاء في «بقجة» كانت وكالة غوث اللاجئين «الأونروا» توزعها على لاجئي المخيمات، ولكن الحذاء أوسع من قدم الولد، ولأن الأب لا يستطيع شراء حذاء لابنه، كان عليه أن ينتعل هذا الحذاء الكبير ويغوص فيه في الطين.. ويبكي.. يجرّ حذاء ثقيلاً لرجل.
خرج من الأسلوب الساخر لمحمد طمليه آنذاك «فريق» طويل عريض من الكتاب الساخرين، ولكن الأغلبية منهم اليوم تفتقر إلى سر محمد: الثقافة، والذكاء، وخفة الدم.. وربما الطبخ.
الكتابة الساخرة في كل مكان في العالم ليست سَوْق نكات ثقيلة الدم، وليست حكايات فارغة.. وإذا أردت، اقرأ التركي عزيز نيسين وكثيراً من مقتضبات أنيس منصور، ولا تقترب من «برناردشو» مثلاً، أو اللمّاح مشعل السديري.. كي لا تسقط دموعك على الورق.
yabolouz@gmail.com