قضايا ودراسات

لغز الملاك الخائن !

عبدالله السناوي

«أنا لا أستطيع النوم». كان الوقت متأخراً والصدمة تهز مشاعره بأثر ما انتهى من قراءته للتو. هل تعرضت مصر إلى هذه الدرجة من الخيانة، التي كادت تلحق هزيمة مروعة جديدة بقواتها، قبل أن تشرع في عبور الجسور على قناة السويس؟
هكذا كان سؤال الدكتور نبيل العربي أمين عام الجامعة العربية السابق، في ذلك المساء من صيف عام (2016)، بعد أن طالع النسخة الإنجليزية من كتاب «إسرائيلي» صدر حديثاً يحمل اسم «الملاك الجاسوس المصري الذي أنقذ «إسرائيل»».
السؤال نفسه سوف يطرح مجدداً على نطاق أوسع، بعد أن شرعت شركات إنتاج أمريكية و«إسرائيلية» في تحويل النص المكتوب إلى شريط سينمائي، يصل إلى كل بيت عربي عبر الشبكة العنكبوتية أيّما كانت درجة الحجب، التي قد تتخذها الرقابة هنا أو هناك.
كأي سؤال تحيطه ظلال كثيفة، لا يصح النفي المسبق من دون أن تتوافر أدلة ووثائق، كما لا يصح الاكتفاء بالحديث عن الأهداف «الإسرائيلية» من هذا الشريط السينمائي، الذي يعرض خلال العام المقبل.
بطبيعة الملف، فهو بالغ السرية والحساسية بتوقيته وأبطاله، ومدى ما أبلغت به «إسرائيل» من أسرار عسكرية وسياسية، قبل أن تدوي المدافع في حرب أكتوبر (1973).
«الملاك الخائن» هو «أشرف مروان» صهر الرئيس جمال عبدالناصر، وأقرب معاوني خلفه الرئيس أنور السادات، حيث عمل معه سكرتيراً للمعلومات.
عندما شرعت الصحافة البريطانية في عرض التسريبات الأولى، منسوبة إلى «إيلي زاعيرا» مدير الاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية»، أرسل الدكتور خالد عبدالناصر، النجل الأكبر للزعيم الراحل، بنفس اليوم فاكساً لصورة ذلك العرض، مازلت أحتفظ به.
كان تقديره: «إذا صحت الرواية «الإسرائيلية»، فإن المثل البريطاني يقول: إذا دخل الثعلب حظيرتك الأشرف لك أن تمسكه بنفسك».
لم تكن لديه إجابة عن السؤال الخطير، لكنه كان يطلب الحقيقة.
بنفس التوقيت المبكر لم يستبعد «سامي شرف»، مدير مكتب الرئيس عبدالناصر وأحد أخلص رجاله، احتمال تورط «مروان»، الذي عمل تحت إمرته في منشية البكري.
استبعد بالقدر نفسه أن يكون ذلك قد حدث أثناء حياة عبدالناصر.
إحدى الروايات تقول إن ذلك جرى في عام (1968) وإن «مروان» أمدّ الاستخبارات «الإسرائيلية» بمحاضر اجتماعات الرئيس المصري مع الزعيم السوفييتي «ليونيد بريجينيف»، وهو ما لم تأتِ على ذكره روايات أخرى قالت إنه قد جنّد قبل رحيل عبدالناصر بشهور قليلة، لكنه لم يقدم شيئاً، ولا شرع في العمل لصالح الاستخبارات «الإسرائيلية» إلا مطلع حكم «السادات» على ما تضمنه كتاب «الملاك» لمؤلفه «يوري بار جوزيف»، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، وضابط سابق بالاستخبارات العسكرية.
في الروايات المتباينة ظلال نزاعات موروثة بين مدير الاستخبارات العسكرية «إيلي زاعيرا» ومدير جهاز الموساد «تسيفي زامير»، أو بين الجهازين الاستخباريين بصورة عامة، كل جهاز يحاول أن يعظّم من دوره ويكيف الوقائع لمقتضى تخفيض دور الجهاز الآخر.
غير أن كليهما له نقطة تنشين واحدة هي النيل من جهاز المخابرات العامة المصرية، تخفيضاً للروح العامة وتشكيكاً في القدرة على مواجهة «إسرائيل» واختراقها في عقر دارها وإلحاق الهزائم بها.
ليس شيئاً جديداً في التاريخ أن تتعرض دولة ما لضربات موجعة، أو اختراقات في بعض مراكزها الحساسة. دول عظمى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق تعرضت لمثل هذه الاختراقات أثناء الحرب العالمية الباردة وما بعدها.
وفق «يوري بار جوزيف»؛ فإن المصريين أضفوا صفة البطولة على أكبر خائن في تاريخهم كله. الرئيس «السادات» منحه وساماً عسكرياً رفيعاً لدوره في حرب أكتوبر، والرئيس «حسني مبارك» أصدر بياناً بعد مصرعه في لندن يصفه ب «الوطني المخلص»، وأرسل نجله الأصغر «جمال» إلى سرادق العزاء.
في لفتة إلى مصرعه قال مؤلف كتاب «الملاك»: «إن المصريين هم الذين قتلوه». الكلام خطر ويستحق التدقيق فيه.
بصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فإن «كرامة البلد وسمعة أشرف مروان نفسه تتطلبان تحقيقاً رسمياً مصرياً في الموضوع، بواسطة هيئة رفيعة المستوى تضم عناصر قضائية وبرلمانية، على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة.. دون ذلك لا تستقيم الأمور».
الرأي نفسه مال إليه «أمين هويدي» وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة الراحل وقت أن تفجرت القضية للمرة الأولى.
وهذه آلية تلجأ إليها الدول الحديثة لاستجلاء الحقيقة من كل جوانبها. استخدمتها «إسرائيل» إثر حرب (1973) فيما أسميت ب «لجنة اجرانات»، التي انطوت نصوص تقريرها المنشور على إشارات لجاسوس أمدّ «إسرائيل» بمعلومات حساسة عن ساعة بدء العمليات العسكرية المصرية.
نفس الآلية استخدمتها مصر بعد هزيمتها في حرب (1967) للوقوف على أوجه الخلل الفادح، التي جعلتها ممكنة بهذا الحجم المروع، تمهيداً لإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة، وقد ترأسها اللواء حسن البدري، لكن لم يتسن لتقريره أن ينشر رغم مرور أكثر من نصف قرن. هناك آلية أخرى لاستجلاء الحقيقة هي الوثائق، لكنها لا تصلح في حالة «مروان».
لا يعقل الادعاء بأن مثل هذا الإفشاء من ضمن خطة الخداع الاستراتيجي، فقد أبلغ مروان «الإسرائيليين» أن الحرب سوف تبدأ في الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت فعلاً الساعة الثانية من بعد الظهر، والشمس في كبد السماء.
حسب رواية «هيكل» فقد كان ذلك هو الموعد المحدد فعلاً لبدء الحرب، لكنه تقدم أربع ساعات للتوفيق بين القيادتين العسكريتين في مصر وسوريا.
لم تأخذ «إسرائيل» المعلومات الخطيرة التي وردت إليها من «مروان» بكامل الجدية، وكان الغرور بالغاً، و«التقصير» مريعاً.
لا «الملاك الخائن» أنقذ «إسرائيل» من شجاعة المقاتلين ، ولا هو يستحق إذا ثبتت التهمة بحقه ، أن يطوى رفاته في التراب المصري.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى