ماذا تفعل روسيا في الشرق الأوسط؟
تأليف: ديمتري ترينين
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
عيون العالم مسلطة على الشرق الأوسط اليوم أكثر من أي وقت مضى. هذه المنطقة المضطربة للغاية ساحة صراع بين اللاعبين العالميين الكبار الذين يتنافسون على النفوذ الدولي. لكن ما يثير الدهشة، أنه بعد غياب ربع قرن عن هذه المنطقة، ها هي روسيا تعود مرة أخرى بحماس منقطع النظير. ومع ذلك يبقى من الصعب تحديد دوافعها وعمليات صنع القرار لديها والأهداف الاستراتيجية لها. فما الذي تفعله روسيا في الشرق الأوسط؟
في هذا العمل، يحاول المحلل البارز في الشؤون الروسية ديمتري ترينين الخوض في غموض سياسي يلف الشرق الأوسط لتقديم تحليل واضح ودقيق لتدخل روسيا فيه وتداعياته الإقليمية والعالمية. ويرى الكاتب أن روسيا لا تستطيع ولن تحل محل الولايات المتحدة كقوة خارجية بارزة في المنطقة، بيد أن أعمالها تسرع من التغييرات التي ستعيد تشكيل النظام الدولي بشكل جوهري خلال العقدين المقبلين.
يطرح الكاتب العديد من الأسئلة، والتي يحاول الإجابة عنها في الكتاب، ونورد الأسئلة باختصار: ما الذي تفعله موسكو في الشرق الأوسط؟ ما مصالحها والحوافز التي تقف خلف تلك المصالح؟ كيف يؤثر تدخل روسيا في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط على الأوضاع فيه؟ هل هناك استراتيجية روسية للمنطقة، وإذا كانت موجودة، فما هي؟ كيف يؤثر النشاط الأخير لروسيا في الشرق الأوسط على باقي العالم، بدءاً من أوروبا؟ ما هو التوازن بين روسيا منافس الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وروسيا كشريك في القتال ضد «داعش» والإرهاب عموماً؟
يشير ديمتري ترينين إلى أن الحرب السورية تعد نقطة مفصلية مهمة في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط بذات الأهمية لغزو العراق من قبل الولايات المتحدة في 2003. ويعلق على ذلك: «لم يحدث في سوريا عواقب على المستوى العالمي، مثل العراق. فالاستيلاء الأمريكي على بغداد وإطاحة صدام حسين من السلطة كانت علامة مسجلة للهيمنة العالمية الأمريكية لما بعد الحرب الباردة. فقد أصبحت رمزاً لقدرة واشنطن على الأخذ والاستيلاء على نحو فردي، وبشكل افتراضي، اتخاذ أي قرار يؤثر على أي واحد في العالم، ويمكن أن يكون ضد رأي كل الأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي. كانت الولايات المتحدة في الحقيقة غير مقيدة كفاعل في السياسة الخارجية، على خلاف أي بلد آخر في التاريخ. ثم، حددت سلسلة من التطورات الأخيرة، من الأزمة المالية العالمية في 2008 إلى ما يسمى «الربيع العربي» إلى الحرب السورية نهاية الوضعية الفريدة لها، وقادت إلى نمط أكثر تشابهاً مع عدد من الدول الكبرى ذات الحجم والسلطة غير المتساوية التي تنافس على النفوذ ولأجل رسم النظام العالمي.
العودة الروسية
يرى الكاتب أن الشرق الأوسط يعدّ عالماً مصغراً عن هذه التطورات الأخيرة، وكنموذج جيد لأي من ألعاب القوى في القرن الحادي والعشرين التي تغير التوازن العالمي. ويقول في هذا السياق: «المشتبهون الاعتياديون»، هؤلاء الذين في المئة سنة الماضية تدخلوا بشكل متكرر في المنطقة، وقسموها إلى مناطق النفوذ، وسعوا إلى التلاعب بالعمليات الاجتماعية السياسية فيها – أبرزهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون – أصبحوا يخيبون آمالهم، وباتوا غير مهتمين بشكل مستمر بهم. فخلال هذه العملية، فقدوا كلاً من المبادرة الاستراتيجية والإحساس بالاتجاه. ومن المثير للفضول أن البلاد التي كانت تتجه نحو الانحدار، اقتصادياً، خلال العقود الأربعة الأخيرة، وهي الصين، لم تعد مع ذلك متلهفة إلى خوض غمار المياه الجيوسياسية العالمية، فهي تختبر فقط تلك المياه. كما أن الهند تعتبر قوة صاعدة أخرى، حتى وإن كانت لا تزال في طور التقدم. لكن ما يثير المفاجأة أن روسيا، التي تعد لاعباً كبيراً أساسياً، كانت بشكل افتراضي قد غادرت المنطقة والعالم خلال ربع القرن الأخير، تعود بشكل غير متوقع إلى اللعبة العالمية وبروح حماسية عالية».
ويعلق أيضاً: «موسكو، بالطبع، لم تحل محل واشنطن كلاعب أساسي أو ضابط أمن رئيسي في الشرق الأوسط. ليس لديها مصلحة، ولا مصادر، ولا نية للقيام بذلك الدور. إلا أنها بعد غياب أعلنت أنها تعود إلى المسرح العالمي كلاعب جيوسياسي مستقل كبير. إذا ما استمرت، فإن هذه الحركة سوف تؤثر على توازن القوى في عدد من المناطق».
وتفصيلاً عن العودة الروسية يقول الكاتب: «بعد أن عطلت روسيا نظام ما بعد الحرب الباردة الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة خلال نزاع أوكرانيا في 2014، تجاوزت بحكم الأمر الواقع الاحتكار الأمريكي في استخدام القوة عالمياً. في 2015، تدخلت بشكل عسكري في الحرب السورية لدعم حكومة دمشق. العديد من المثقفين سخروا من هذا التدخل، كما فعلت إدارة أوباما في واشنطن، والتي تكهنت بثقة أن تدخل روسيا في سوريا هو دخول في «مستنقع». ومع ذلك، بنهاية 2016، لم تستطع روسيا وحلفاؤها على الأرض من تحقيق استقرار لنظام بشار الأسد، ومنع حدوث الانهيار الكامل للدولة السورية فقط، بل أيضاً فرضت ما يكفي من الضغط على المعارضة السورية وداعميها لإطلاق عملية وقف إطلاق النار والمضي في حوار سياسي حول مستقبل البلاد».
ويشير إلى أن تدخل موسكو المباشر قد غير الاصطفاف الجيوسياسي في المنطقة، قائلاً «روسيا شكلت ائتلافاً عسكرياً مع سوريا، إيران، حزب الله، والعراق.. هذا البلد الذي حكمته الولايات المتحدة بحكم الأمر الواقع لمدة عقد بعد الغزو والاحتلال في 2003.
دور روسيّ مؤثّر
يشير الكاتب إلى المحادثات السياسية الجارية بين السوريين المدعومة من الثلاثي روسيا، إيران، وتركيا التي هي عضو في حلف الناتو أصبحت بحكم الأمر الواقع متحالفة مع موسكو. ويقول حول هذا: «المكان الذي تم اختياره لأجل المحادثات هو أستانا، عاصمة كازاخستان، الشريك الأمني والاقتصادي الأساسي لروسيا في آسيا الوسطى وعضو نشط في منظمة شنغهاي للتعاون التي تجمع معاً دول آسيا الوسطى مع روسيا والصين، وبدءاً من 2017 ضمت الهند وباكستان أيضاً. وبكين نفسها كانت تدعم موسكو باستمرار فيما يخص الملف السوري في مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة».
ويضيف: «كما أن اصطفاف روسيا مع معسكر النظام في الحرب السورية لم يدفع موسكو إلى حرب ضد المعسكر الآخر الداعم للمعارضة في الشرق الأوسط. وبشكل استثنائي، استطاعت روسيا أن تطور علاقاتها مع مصر، أكبر دولة عربية، وحليف سوفييتي سابق في المنطقة، إذ عملت روسيا على إحياء العلاقة معها الآن. تقريباً من الصفر، بنت روسيا علاقات مع دول الخليج العربي، حيث كان من النادر أن يكون لها وجود في هذه الدول. وبعد استراحة دراماتيكية من سبعة أشهر في 2015-2016، أقامت موسكو علاقات تعاون أقوى مع تركيا أكثر من قبل».
وفيما يتعلق بالدور الروسي في الانقسامات الكبيرة في المنطقة يقول: «استطاعت الدبلوماسية الروسية أيضاً التفاوض على عدد من الانقسامات التي بدت أنه لا يمكن حلها في الشرق الأوسط. فقد استطاعت روسيا أن تبقي على علاقات تعاونية جيدة مع «الإسرائيليين» والفلسطينيين؛ «إسرائيل» وإيران؛ إيران والمملكة العربية السعودية (حتى إنها قامت بمناقشة مسائل خفض إنتاج النفط بين الدولتين)؛ تركيا والكرد، وبذات الطريقة الحكومات المتخاصمة في طرابلس وطبرق في ليبيا، الانقسامات الطائفية-السياسية في لبنان. ليس هناك من لاعب رئيسي في الشرق الأوسط – ضمناً حزب الله وحماس – ليس لموسكو خط مفتوح وحوار حي معه».
ويعلق على ذلك: «هذا الأمر مدهش بالنسبة لدولة اعتادت زمن الاتحاد السوفييتي أن تتخذ مواقف إيديولوجية صارمة، وكان عليها أن تتقهقر من المنطقة في إذلال بعد الحرب الأفغانية الخاسرة، وتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه الذي تبعه حينها، في وقت قصير، نزاع دموي في الشيشان».
دروس من الماضي
يقع الكتاب في 144 صفحة من القطع المتوسط، وهو صادر عن دار «بولايتي» في ديسمبر/كانون الأول 2017 باللغة الإنجليزية. ويأتي بعد المقدمة في أربعة أقسام هي: أولاً: التاريخ. ثانياً: الحرب. ثالثاً: الدبلوماسية. رابعاً: التجارة. وأخيراً: استنتاجات.
يتعامل الكاتب في الفصل الأول مع إرث الماضي، من أيام الإمبراطورية الروسية التي تقدمت نحو المضايق التركية والاندفاع نحو بلاد فارس، إلى محاولة الاتحاد السوفييتي استغلال الأنظمة العربية الراديكالية كحلفاء في الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، وعن موقف موسكو مع حلفاء أمريكا: «إسرائيل» وتركيا وإيران زمن الشاه، وغيرها. السؤال الرئيسي في هذا الفصل هو: ما الذي تعلمته روسيا من خبرتها التاريخية الغنية مع الشرق الأوسط؟، وكيف أصبحت سياسة موسكو عقب انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؟ كما يتضمن إشارة إلى خبرة موسكو في أفغانستان وشمالي القوقاز مع التوقف عند الدروس التي تعلمها الروس.
يركز الفصل الثاني على العمليات العسكرية الروسية المستمرة في سوريا، والتي بدأت في 2015، ونتائجها السياسية. وفي أشكال عديدة، سواء من الناحية العملياتية أو التقنية، يشكل هذا التدخل العسكري طريقة جديدة في استخدام القوة العسكرية الروسية، ليس فقط مقارنة مع العمليات السوفييتية في أوروبا وآسيا زمن الحرب العالمية الثانية، بل أيضاً مع التدخلات الحديثة في أفغانستان والشيشان.
أنماط التدخل
يناقش الفصل الثالث أنماط الدبلوماسية الإقليمية الروسية، ويسلط فيه الكاتب الضوء على طريقة موسكو في التفاوض لحل الانقسامات الإقليمية من خلال التعامل بشكل فوري مع الدول والمجموعات المتخاصمة مع بعضها، وتعزيز المصالح الروسية مع كل شريك. كما يعالج الفصل التنافس الجيوسياسي والتعاون الدبلوماسي بين روسيا وتركيا؛ روسيا والولايات المتحدة؛ وبين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. هذا الفصل يأتي على شكل سلسلة من دراسات حالات مصغرة، مقدماً رؤية في أهداف واستراتيجية وتكتيكات روسيا المعاصرة كلاعب خارجي مهم في الشرق الأوسط.
ويركز الفصل الرابع على المصالح الاقتصادية الروسية في الشرق الأوسط، من تجارة الأسلحة إلى الهيدروكربونات، الطاقة النووية، أنابيب النفط، والبنية التحتية الخاصة بالنقل، ويعلق على ذلك: «هذه المصالح المحددة تؤثر على صنع القرار الروسي بقدر ما تؤثر على الجيوسياسية». كما يتطرق إلى العلاقات والروابط الإنسانية والروحية الدينية بالنسبة للشتات الروسي في الشرق الأوسط.
يضع الفصل الأخير من هذا العمل سياسات موسكو في الشرق الأوسط في أوسع سياق لسياستها الخارجية والعلاقات مع الولايات المتحدة، وإلى مدى أقل مع أوروبا. يبدأ بوصف الروس بأنهم يبتعدون عن السياسات الغربية والأمريكية، وذلك من منذ الغزو الأمريكي للعراق إلى «الربيع العربي» والتدخل الغربي في ليبيا وسوريا. ثم يمضي إلى مناقشة التعاون الروسي مع الصين والهند، وأهمية مبدأ «أوراسيا الكبرى» بالنسبة للسياسة الخارجية العملية لموسكو، والدور المحتمل لمنظمة شنغهاي للتعاون. السؤال الأساسي الذي يتم معالجته هنا هو كيف تسعى موسكو، عبر تحركاتها في الشرق الأوسط إلى تغيير النظام العالمي؟ ويقول في النهاية: «بالتالي قصة روسيا في الشرق الأوسط ليست عن روسيا أو الشرق الأوسط فقط».
نبذة عن الكاتب
يعد الدكتور ديمتري فيتاليفيتش ترينين، مواليد موسكو عام 1955، مؤرخاً، ومحللاً سياسياً، ومؤلفاً، ويشغل في الوقت الراهن موقع مدير مركز كارينجي موسكو، وهو مركز أبحاث ورابطة إقليمية لمؤسسة كارينجي للسلام الدولي. في عام 1977، تخرج ترينين في المعهد العسكري لوزارة الدفاع في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، الذي يوجد اليوم كجامعة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع في الاتحاد الروسي. في عام 1984، حصل ترينين على درجة الدكتوراه في التاريخ من معهد الولايات المتحدة والدراسات الكندية من الأكاديمية السوفييتية للعلوم، والآن الأكاديمية الروسية للعلوم. قبل انضمامه إلى كارينجي في عام 1994، خدم لمدة 21 عاماً في الجيش السوفييتي والقوات البرية الروسية، إلى أن تقاعد في عام 1993 برتبة كولونيل.
يشغل ترينين عضوية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (لندن، المملكة المتحدة)، وعضوية المجلس الروسي للشؤون الدولية (موسكو)، والجمعية الروسية للدراسات الدولية (موسكو) والأكاديمية السويدية الملكية للعلوم العسكرية. وهو عضو في مجلس أمناء مدرسة موسكو للدراسات السياسية. ويعمل في مجالس تحرير العديد من المجلات الأكاديمية، كما يساهم في النشر في العديد من وسائل الإعلام الإخبارية البارزة في العالم. ترينين يتحدث الروسية والإنجليزية والألمانية بطلاقة، ويكتب بهذه اللغات، له ما يقارب العشرين كتاباً، نورد بعض العناوين عن الكتب الإنجليزية له: «لماذا ينبغي أن نخشى روسيا؟ «(2017)»، ما بعد الحرب: قصة أوروبية «(2011)، وشارك في تأليف «آسيا الوسطى: وجهات نظر من واشنطن وموسكو وبكين» (2007).