مقالات عامة

ماذا يقترح المتحذلقون والساخرون؟

د. علي محمد فخرو

لا يمكن أن تلوم البعض عندما يصابون بخيبة الأمل والشعور باليأس أمام الأوضاع المأساوية المفجعة المجنونة التي يعيشها وطنهم العربي. بل ونتفهّم عندما تقود تلك الخيبات البعض إلى الرغبة في اعتزال حياتهم العامة، والانكفاء داخل قوقعة الحياة الخاصة. فالمصائب والانتكاسات كثيرة، والآلام عميقة لا تطاق. ثم إن الشعور بضياع الجهود، وبعقم التضحيات التي بذلوها طوال حياتهم في سبيل المصلحة العامة، يولّد عند البعض مشاعر الشماتة والرغبة في الانتقام.
النتيجة هي انقلاب هؤلاء من مثقفين، ومناضلين ملتزمين بقضايا أمتهم، إلى متحذلقين، وساخرين، مستخفين بكل شعار، وفكر، وممارسة، يتمسك بها القابضون على الجمر والمصرون على ألا يموتوا إلا وهم واقفون ومرفوعي الرأس.
ولكن، هل حقاً أن الوصول إلى تلك الحالة من اليأس والشعور، بأن الأحزاب والحكومات والجيوش قد خذلتهم يستدعي الكفر بكل شيء؟ فالنضال من أجل أي نوع من الوحدة العربية، سواء أكانت جزئية أم شاملة، هو مراهقة سياسية يجب أن نخرج منها. والحديث عن الفكر الاشتراكي هو هذر طوباوي تخطاه الزمن وأثبتت استحالة تحقيقه في الواقع تجربة الاتحاد السوفييتي السابق عبر سبعين سنة من المحاولات.
أما رفض ومقاومة الوجود «الإسرائيلي» الاستعماري الاستيطاني في فلسطين فهو نوع من العبث الطفولي العاجز في السياسة والذي يجهل كيف يتعامل مع الواقع الدولي ويتعامى عن رؤية الإمكانات «الإسرائيلية» التكنولوجية والسياسية والعسكرية الهائلة المدعومة من دولة عظمى.
وأما المطالبة بالاستقلال القومي، وحرية الأوطان، ورفض التدخلات الأجنبية وهيمنتها على مفاصل الحياة العربية، فإنه دليل على الجهل بمتطلبات العولمة الاقتصادية وتعقيدات تشابك المصالح المتبادلة بين الدول.
إنه إذاً، رفض لكل أفكار وشعارات وأهداف كل الإيديولوجيات التي طرحت على نطاق عربي واسع خلال القرن العشرين، سواء أكانت الإيديولوجية القومية العربية بشتى تنظيماتها السياسية، أم كانت الإسلامية السياسية بمختلف أطروحاتها، أم كانت الماركسية بكل أنواع مسمياتها، أم حتى الليبرالية الكلاسيكية التي تزيحها بقوة وإصرار النيوليبرالية البرجماتية العولمية التي تجتاح عالمنا وعصرنا الحالي.
إن الرفض لكل فكر إيديولوجي شامل، حتى ولو كان متماسكاً، والانتقال إلى التعامل مع ما تأتي به الأيام بصور تجزيئية لا ترابط بينها، والانصياع لحقائق الواقع من دون موازين قيمية وسياسية أو وطنية أو قومية، هو الذي تطالب تلك الجماعات بممارسته وتعتبره دليلاً على انتقالنا إلى العقلانية والنضج السياسي.
حسناً، هذا هو منطقهم، فلنسأل عن معاني ونتائج ذلك المنطق.
أولاً، نحن نفترض أنهم يتكلمون بصفتهم أصحاب معرفة وثقافة، فما هي صفات ومهمات المثقفين عبر التاريخ الإنساني كله؟
هذا موضوع كبير وواسع، ولكن يمكن اختصاره في أن المثقفين عبروا دوماً عن ضمير المجتمع، واندمجوا فكراً وممارسة في قضايا المصير العام، وهيأوا المجتمعات للقبول بالتغيرات المجتمعية الكبرى من خلال لعب أدوار المجددين الفكريين والمصلحين الاجتماعيين في آن واحد، ولعبوا، كلما تطلب الأمر، أدوار حاملي المعرفة والدُعاة والمناضلين، وانتهى بعضهم إلى تحمُل مرارات التهميش والسجون، أو حتى الشهادة.
فهل تستطيع جماعة المتحذلقين والساخرين من ثوابت الأمة وأحلامها، والداعين إلى استسلامها لقدرها ولجلاديها ولمستبيحي ثرواتها، أن تدعي أنها تتكلم كجماعة مثقفة، إذ هل تنطبق عليهم أي من تلك الصفات، ويلتزمون بأي من تلك المسؤوليات؟
فإذا كانت صفة المثقف لا تنطبق عليهم، فبأية صفة يتحدثون؟ وهل نلام إن بدأنا نشمُ في أقوالهم ومواقفهم رائحة خدمة هذه الجهة الأجنبية أو تلك السلطة المحلية؟
ثانياً، لنفترض حسن النية ولنعذر الضعف الإنساني في هؤلاء، ولنطرح السؤال التالي: ما الذي يقترحونه بديلاً عن تلك الثوابت في الإيديولوجيات العربية المختلفة؟
هل يقترحون القبول بتجزئة الأمة العربية الحالي إلى دويلات، ودول عاجزة، أو متناحرة، أو محتلة، أوفقيرة؟ هل حقاً إن التفكير في نوع اتحادي عملي ومعقول وتدرجي هو ممارسة للمراهقة السياسية؟ ألا يرون أن العالم كله يتجه إلى تكوين تكتلات اقتصادية، أو سياسية، أو أمنية قادرة على السباحة في بحار العالم الحالي الهائجة والمليئة بكل أنواع الأخطار؟
هل إن المناداة بنظام عدالة اجتماعية يقود إلى توزيع عادل للثروة، وبناء للكرامة الإنسانية في كل مواطن، وتوسيع أكبر للطبقة المتوسطة، وقضاء على الفقر المدقع، هو حديث عن أفكار بالية ما عادت صالحة لعصرنا العولمي الرأسمالي المتوحش؟
هل يريدون التضحية بحقوق وأحلام وتطلعات مشروعة لاثني عشر مليون فلسطيني عربي باسم الواقعية السياسية في التعامل مع الفكر والممارسات والجرائم «الإسرائيلية»؟ وماذا عن مشروع «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل؟ هل سيقبلونه من دون مقاومة له ولحامليه وداعميه؟
ما الذي يقترحونه لإيقاف التدخلات والاحتلالات والابتزازات والنهب للثروات التي تمارسها القوى الاستعمارية بحق الوطن العربي كله؟
هل يرضيهم انتقال الحل والعقد لكل قضية عربية إلى يد الآخرين، وموت الجامعة العربية البطيء، وتمزيق كل تجمع إقليمي عربي؟ ما الذي يقترحونه لمواجهة هذا الوضع المأساوي في حياة كل العرب؟
لن نقبل بسماع قهقهات هؤلاء المتحذلقين ولعبهم بالنار واستخفافهم بكل ثوابت مطروحة لإخراج هذه الأمة من تخلفها التاريخي ومن ضعفها المذل وهي تنتظر الموت.
إذا كانت لديهم أفكار أفضل، تحمي هذه الأمة وتخرجها من الجحيم الذي تعيشه، فليقدموها، وإلا فليسكتوا وليدعوا الآخرين ليقبضوا على الجمر.
ما يوجع القلب أننا أصبحنا نعيش في عصر عربي لا يتصف بتواضع مثقفيه، وإنما بصلف بعضهم إلى حدود الجنون، والانتحار.

hsalaiti@kpmg.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى