«مدرب على القتل»
تأليف: أنطونيو فيسيانا وكارلوس هاريسون
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
كان الكوبي أنطونيو فيسيانا يخوض حرباً سرية على مدى عقود طويلة لتدمير نظام فيدل كاسترو عبر دعم ال«سي آي أيه» له. وعاصر في ذلك الوقت الكثير من المؤامرات عبر جواسيس أمريكيين معهم رخصة بالقتل. كان بعضهم من المنفيين الكوبيين وآخرون من رجال المافيا الذين لم يكن في مرمى نيرانهم فقط كاسترو، بل جون كينيدي أيضاً الذي تم اغتياله على يد لي هارفي أوزوالد في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963. فيسيانا يعتقد أن ضباطاً من «سي آي أيه» التقوا مع القاتل قبل الاغتيال، ويكشف عن قصص استخباراتية مرتبطة بالاغتيال، بعد صمته لما يقارب خمسة عقود خوفاً على حياته وأسرته.
في أوائل 2017، بدأ العميل السري الكوبي السابق بسرد قصته على شكل مذكرات عنوانها «مدرّب على القتل: القصة الداخلية لوكالة المخابرات المركزية ضد كاسترو وكينيدي، و تشي» في 212 صفحة عن دار «سكايهورس» للنشر، يتناول فيها تكلفة الحملة المضادة لكاسترو عليه وعلى الولايات المتحدة، ويروي للقراء بالتفصيل دوره في لعبة معقدة من الصراعات التي كانت تهدف إلى إسقاط قادة العالم وتغيير مسار التاريخ.
يأتي عمله أشبه ما يكون بتبرير من جانب واعتذار من جانب آخر، ويعبّر فيه عن الفخر والأسف كذلك. وهو لا يندم على المعارك التي خاضها ضد كاسترو، لكنه يأسف كثيراً لأن معركته دفعته إلى تفويت الكثير من الأوقات التي كان لا بد أن يقضيها مع أسرته وأطفاله. لكن الأهم من ذلك كله، يريد أن يشارك ما يعرفه عن واحدة من أكثر الصدمات الدائمة في التاريخ الأمريكي: اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي في 22 نوفمبر 1963.
يتناول فيسيانا في الكتاب المؤلف من 11 فصلاً، القصة من وجهة نظر جندي يسرد ما رآه على الخطوط الأمامية للنضال الكوبي الأمريكي من أجل السلطة. وشاركه في تأليفه الصحفي المخضرم كارلوس هاريسون الذي كان مراسلاً سابقاً في «ميامي هيرالد»، وهو حائز على جائزة بوليتزر، وهو مؤلف لأربعة عشر كتاباً باللغتين الإنجليزية والإسبانية، وهو يعيش في بيمبروك باينز، فلوريدا. كما يقدم للكتاب الإعلامي الأمريكي القدير ديفيد تالبوت الذي يذكر في مقدمته أن أنطونيو يسلط الضوء على فترة مظلمة من التاريخ الأمريكي، ويبين كيف أن المغامرات الإمبريالية التي تقوم بها واشنطن تساهم في تقويض الديمقراطية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
خوف من العواقب
تحول أنطونيو فيسيانا من موظّف مصرفي وتاجر إلى عقل مدبر لصنع القنابل التي شنّ بها هجمات في هافانا خلال محاولات اغتيال كاسترو، وكان يبني واحدة من المجموعات شبه العسكرية الأكثر تخويفاً وضراوة في العصر، وكلها تحت إشراف وكالة المخابرات المركزية «سي آي أيه».
في أوائل الستينات، من خلال وجوده في منصب رفيع المستوى في الحكومة الكوبية، أضر فيسيانا بالنظام الشيوعي الذي كان يترأسه الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، إذ قام بالعمل على قصف أكبر متجر في العاصمة الكوبية، والتآمر لقتل كاسترو بسلاح «بازوكا» الفردي الذي يستخدم كقاذف للصواريخ ضد الدبابات. وعندما أجبرته قوات الأمن الكوبية على الذهاب إلى المنفى، لم يستسلم فيسيانا، بل منذ عام 1960 إلى أوائل السبعينات، قام بتوجيه أموال وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى شبكة من الأفراد الذي عملوا ضد كاسترو من خلال مقرهم في ميامي، إذ كانوا يعدّون ثورة مسلحة ضد الحكومة الكوبية.
في نهاية المطاف، أصبح فيسيانا تهديداً، ليس فقط لكاسترو، بل أيضاً للذي يتعامل معه من وكالة المخابرات المركزية. فقد أصبح الرجل الذي يعرف الكثير.. وعندما استدعي فيسيانا أمام لجنة الكونجرس للتحقيق في اغتيال كينيدي، خاف من العواقب. ولم يكشف عن هوية ضابط وكالة المخابرات المركزية الذي كان يوجهه.
عملية «بيدرو بان»
في هذه القصة يعيد فيسيانا الحديث عن حياته المهنية في كل من المحاسبة والتجسس. ففي العام 1960، انضم فيسيانا إلى حكومة كاسترو الاشتراكية الجديدة، حتى يتمكن من تخريبها من الداخل. وقد سرق أموالاً رسمية، حينما كان يعمل لدى وزير المالية تشي جيفارا، واستخدم الأموال لتمويل الهجمات على المكاتب الحكومية والمقرات الأمنية والمصانع والمستودعات. وبعد ذلك بعامين، استخدم منصبه الحكومي لدعم دعاية زائفة تعلن أن الحكومة عازمة على احتجاز الأطفال في سن المدرسة. وقد أثار هذا الذعر لدى الآلاف من الأسر الكوبية ودفع الكثير منهم في عام 1962 إلى إرسال أطفالهم إلى جنوب فلوريدا، حيث رحبت بهم الكنيسة الكاثوليكية، وبلغ عددهم ما يقارب 14 ألف طفل. ووصفوها ب «عملية بيدرو بان»، كما صورتها الصحف الأمريكية بأنها جهد لا ينكر لإنقاذ ضحايا القمع الشيوعي.
وكان الرجل الاستخباراتي الذي يتعامل معه فيسيانا معروفاً له باسم «موريس بيشوب» ولكن اسمه الحقيقي، كما يقول فيسيانا، هو ديفيد أتلي فيليبس. على مدى عقد من الزمان، يقول فيسيانا إنه تعرف على فيليبس جيداً من الناحية الشخصية والسياسية. وفيليبس رجل وسيم من الناحية النظرية، وضابط سري مقلّد بوسام، يصبح رئيساً لقسم نصف الكرة الغربي التابع لوكالة المخابرات المركزية قبل تقاعده في عام 1975.
وبعد غزو خليج الخنازير الذي كان عبارة عن محاولة فاشلة من جانب القوات التي دربتها وكالة المخابرات المركزية من الكوبيين المنفيين لغزو جنوب كوبا وقلب النظام على فيدل كاسترو في شهر أبريل/نيسان عام 1961، يقول فيسيانا: «عندما هزم كاسترو المتمردين المدربين من «سي آي أيه»، أعرب فيليبس عن ازدرائه لكينيدي». وبعد الحل السلمي الذي قام به جون كينيدي لأزمة الصواريخ الكوبية، يقول فيسيانا أيضاً إن فيليبس ساعده في العثور على «ألفا-66»، وهي منظمة شبه عسكرية مكرسة لمهاجمة الأهداف الكوبية، وأصبحت أداة رجل المخابرات المركزية للضغط على كينيدي.
في مارس/آذار 1963، هاجم فيسيانا ومجموعة من الكوماندوز البحري سفينة روسية تبحر باتجاه كوبا، وتصدر الهجوم عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم حينها. وعقد حينها فيسيانا مؤتمراً صحفياً في واشنطن يفتخر فيه بالهجوم. وكان فيليبس يأمل في إهانة السوفييت وإحراج إدارة كينيدي ودفعها إلى اتخاذ إجراءات أكثر عدوانية ضد كوبا. لكنها لم تنجح. كينيدي قلل من شأن القضية الكوبية، وأعداء كاسترو، ويقول فيسيانا إنهم كانوا غاضبين منه، بمن فيهم بيشوب (فيليبس).
لقاء لا ينسى
لعل الجزء المحير على نحو أكثر هو القصة التي تظهر لأول مرة، حينما قال فيسيانا للمحققين في الكونجرس في عام 1975، إنه رأى موريس بيشوب (فيليبس) مع لي هارفي أوزوالد في دالاس في سبتمبر/أيلول عام 1963، قبل شهرين أو ثلاثة من قتل جون كينيدي، ويشير إلى أنهم التقوا في بهو مركز ساوثلاند، أطول مبنى في دالاس. و«قد كان بيشوب هناك من قبل. كان البهو مزدحماً بالناس، ولكنني رصدته يقف في زاوية، ويتحدث إلى شاب، شاحب، رجل لا تشعر بأي قيمة له. لم يتكلم عندما قدّمه بيشوب إلي ولا حتى لبقية الوقت الذي كنا فيه معاً على الإطلاق… لا أتذكر ما إذا قدمه بيشوب بالاسم».
ويذكر فيسيانا: «بعد مقتل جون كينيدي في دالاس في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، ألقي القبض على أوزوالد، وتم عرض وجهه على شاشة التلفزيون. عرفته على الفور. كان من دون شك نفس الوجه الذي رأيته قبل أحد عشر أسبوعاً مع بيشوب». ويقول فيسيانا، كجندي موال للوكالة، إنه عرف ألا يترتب ذكر الأمر لأي شخص. كان يعتقد أن كينيدي كان ضعيفاً، بل خائناً بشأن قضية كوبا، ولم يتأسف على وفاته. (جدير بالذكر أن أوزوالد لقي حتفه أيضاً بعد الاغتيال بيوم، إذ أطلق رجل العصابات جاك روبي النار عليه في الطابق السفلي لمبنى الشرطة في دالاس).
وكان رد فعل بيشوب على وفاة جون كينيدي قريباً مما قاله فيسيانا. في مطلع عام 1964، يدعي فيسيانا أن فيليبس سأله ما إذا كان ابن عمه، وهو ضابط في جهاز الاستخبارات الكوبي، مستعداً للتحدث عن أنه تآمر مع أوزوالد قبل اغتيال جون كينيدي. عرض فيليبس دفع ثمن هذه القصة. لكن فيسيانا أخبره أن ابن عمه كان شيوعياً ولا يمكن شراؤه.
وبعد عقد من الزمان، في عام 1975، عندما أعادت السلطات الأمريكية فتح تحقيق اللجنة المشتركة، علم جايتون فونزي، وهو محقق في الكونجرس في جنوب فلوريدا، أن فيسيانا كان يعمل لحساب وكالة المخابرات المركزية. اقترب منه، وطلب معرفة المزيد عن كيفية تعاون وكالة المخابرات المركزية مع الكوبيين المنفيين. فيسيانا أخبره بقصة عمله مع بيشوب، بما في ذلك الاجتماع مع أوزوالد.
رتب فونزي موعداً لفنان للقيام برسم بيشوب على أساس وصف فيسيانا. وكانت النتيجة صورة تشبه كثيراً فيليبس، وهو شخص يهم المحققين. ثم جلب فونزي فيسيانا إلى واشنطن لعقد اجتماع مع فيليبس. على الرغم من أنه كان يعمل مع فيسيانا لمدة عشر سنوات، تظاهر فيليبس ببرود بأنه لا يعرفه بحسب ما يكتب فيسيانا، وأن فيليبس وجد حتى اسمه غريباً، لأن كوبا كانت معروفة جيداً لضباط وكالة المخابرات المركزية الذين كانوا يعملون على الإطاحة بكاسترو. ذهب فيسيانا مع حيلة فيليبس، كما يقول، خوفاً من انتقام وكالة المخابرات المركزية. وقال فونزي له إن فيليبس لم يكن الرجل الذي كان يعرفه باسم موريس بيشوب.
إيمان بالحرية
يقول فيسيانا في خاتمة الكتاب: «مر أكثر من 35 عاماً على زيارة فيديل كاسترو إلى الأمم المتحدة. وأنا أنهي هذا الكتاب، فقد بلغت الثامنة والثمانين من عمري. لدي أحفاد رائعون. ولدي 88 سنة من الأسئلة، ومن حالات الندم. أندم لأنني انتظرت حتى الآن لأروي القصة كاملة. أندم لأنني انتظرت مرور أكثر من 50 عاماً على اغتيال كينيدي لأخبر العالم بهذه المعلومات المتفجرة التي كانت لدي حول القضية. أي أن الضابط الذي كان يتواصل معي من «سي آي أيه»، الرجل الذي عرفته باسم موريس بيشوب، كان في الحقيقة ديفيد أتلي فيليبس، شخصية بارزة في الوكالة. وعرفت أن فيليبس يتباحث مع لي هارفي أزوالد في مكتب بدالاس، ليس بفترة طويلة من مقتل كينيدي».
ويضيف: «عرفت بيشوب في اللحظة التي رأيت فيها صورة ديفيد فيليبس. لماذا لم أقل حينها؟ كنت خائفاً. أعتقد أنه كانت هناك مؤامرة لقتل كينيدي. وأعتقد أنه حتى إن لم يكن ديفيد أتلي فيليبس جزءاً منها، لكنه عرف بها. لماذا التقى بأوزوالد في دالاس قبل الاغتيال بفترة ثلاثة أشهر؟ ولماذا سأله إذا كان من الممكن أن يساعده على إيجاد ارتباط لأوزوالد مع السفارة الكوبية في المكسيك؟».
ويقول في نهاية العمل إن حكومة بلاده كانت تفرض نفسها على الناس بالقوة. فقد استخدمت التخويف لتحويل كوبا إلى سجن، مع الاعتماد على حراس للحكومة والنظام من الرجال الموثوقين لإبقاء السكان في خطهم، ويشير أيضاً إلى أن كاسترو عمل بعض الأشياء الجيدة للناس، إذ ساعد الكثيرين على الدخول في الجامعات، قائلاً: «النظام قدم التعليم للجميع، كما قدم الرعاية الصحية لجميع السكان على الجزيرة. هناك الكثير من الأشياء التي يجب الاعتراف بها وقبولها. لكن ما الثمن الذي دُفع لقاء ذلك؟ هل السجين سيكون أسعد إذا ما كانت لديه رعاية صحية مجانية أم يكون أسعد إذ كان حراً؟».
ويختم العمل بقوله: «أؤمن بالحرية. لذلك سعيت إلى النضال لأجل كوبا حرة. لا أندم على ذلك. شعرت بالأذى مما كان يحدث في بلادي، لذلك عملت ما اعتقدت أنه يجب القيام به. وأعتقد أنني كنت محقاً فيما فعلته. لكن أجد أنني هجرت عائلتي لأجل مهمة سياسية. سرقت تلك السنوات منهم. السياسة استنزفتني، وفي السياق، استنزفتهم أيضاً. وعلى ذلك سأندم إلى الأبد».