قضايا ودراسات

مدمنو الغياب

مريم البلوشي

هل جربت أن تسافر مع أحدهم وقد غيب عن الوجود؟ يمشي معك لكن لا يحادثك؟ يضحك ويبتسم ويصف العالم لكن ليس لك. يجاري كل ما يجري لكن ليس لنفسه حتى ينقل صورة كل شيء لغيره ولا يدرك أنه قد خسر ماله ووقته، ولربما أقول له: لماذا تسافر؟ لتصور كل هذه المشاهد وتنقلها؟ لقد باتت موجودة في كل مكان في الإنترنت وكل الوسائل، إلا إن كانت هناك فائدة ترجى.
هؤلاء هم مدمنو وسائل التواصل الاجتماعي، لا تشتهي السفر معهم «بصدق»، فمعهم لن تجدهم حاضرين يحدثونك أو حتى يمتعون أنفسهم، مغيبون ومحكومون بوسيلة صغيرة في يدهم، لا يدرون جمال التأمل وأن يكونوا في حضن الطبيعة أو لماذا هناك أوقات للتنفس والراحة، أتساءل هل تستحق حياتنا أن يسرقها منا جهاز صغير؟ هل يستحق من حولنا أن لا نكون معهم ولأجلهم من أجل جهاز صغير؟ وهل تستحق أنفسنا أن لا نكون أحياء مع من نحب من أجل أن نقنع بعض البشر أننا موجودون من أجلهم ونلبي كل أسئلتهم ونجاوبهم في كل وقت ولحظة وحتى نعطيهم حياتنا الخاصة، وأوقاتنا التي تحتاجها أرواحنا من أجل فقط «عدد المتابعين» وحكم «المتابعين».
أصبحنا نسافر من أجل أن نتنافس مع غيرنا في قصص الرحلات، وحكاوي الأوقات، وصرنا دونما استثناء نجاري بعضنا في ذلك ونتباهى بالأماكن والأجواء حتى صار بعضنا يتساءل «لماذا أحس أني لم أسافر؟ ولماذا لم استمتع؟ وكيف لم أشعر بالأيام؟» أجيبك وأجيب نفسي، لأننا بعناها للأوهام، لأسماء وأرقام خلف الشاشات، وبتنا مغيبين عن الحضور في وقت الراحة ونسينا حتى قيمة الاستمتاع واستشعار لذة الإجازة وتجاوز القيود والبقاء ببساطة في حضن الطبيعة والحياة. الحياة هي أن نكون في متنفس النفس معها، وفي مقام البيت مع من نسافر معه ونحب، ومع سماء البعد نستحضر أنفسنا ونعيد إحياء طاقتها بأن نخرجها من روتين سنة كاملة، وبأن نكون أصحاب حالات من الاسترخاء دونما أن نعود ونتوتر لأننا لم نر جهازاً صغيراً أو لم نرد على أحد. يعجبني الكثيرون من المشاهير ممن أدرك كيف يسيطر على هذا الجهاز؛ حين يسافر يعيش لنفسه، ولا يقبل أن يشارك تفاصيله أو يومياته مع أحد لأنها حياته، ووقته الخاص ورغبته بأن يعيش بعيداً عن أي نوع من الضغوطات وإن كانت مع من هم سبب شهرته.
الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يختلي بنفسه مع ربه، في غار حراء، يناجي ويتعبد ويهدأ مع نفسه، ونحن في وقت أحوج لذلك، ولنا في العزلة حياة، لمن يسافر لا تهضم حق نفسك في الحياة ولا تكن من مدمني الجهاز الصغير، وإن كنت «عالج نفسك».

Mar_alblooshi@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى