مفاتيح المدن
خيري منصور
هناك من الكتّاب والشعراء من شبهوا المدن بالنساء، على اختلاف الألوان والأمزجة والإيقاعات، كما أن هناك من قالوا إن للمدن روائح ما إن يفتح باب الطائرة في مطار حتى تهب رائحة المدينة.
وقد تكون ذات مذاق تبغي كما في مدن أمريكا اللاتينية، أو ذات روائح حادة وبرية كما هي الحال في إفريقيا، والحقيقة أن كل هذا يندرج تحت عنوان الإسقاطات كما تسمى في علم النفس، فالمدن كما هي وقد تكون محايدة بالنسبة للغريب الذي يدخلها لأول مرة، لأنه يتعامل مع جانب واحد فيها هو جانب الخدمات التي تخضع لاعتبارات سياحية وبالتالي تجارية!
لكن هناك بالمقابل من الشعراء والفنانين من قال إن المدينة الأبهى هي تلك التي يعيش تحت سمائها وفي ليلها من تحب.
لكن هناك مدن تبقى محتفظة بمفاتيحها، وأسرارها، وتشترط على من يدخل إليها في الأعماق أن يكون عاشقاً لها، بحيث تبادله الحب. وكما هي الحال في الوضع البشري هناك مدن يكون فيها الحب من طرف واحد. ورغم كل ما تعج به المدن الكبرى من أضواء وصخب ومباهج، إلا أن أكبر عواصم العالم تعرضت لهجاء يصل حدّ اللعنة والشيطنة من شعراء مسكونين بنوستالجيا نحو قراهم البعيدة. وفي القرن الماضي كتب عن نيويورك ولندن وباريس وأثينا ما يمكن تصنيفه بالهجاء، خصوصاً لندن كما كتب عنها الشاعر اليوت حين وصفها بالحيوان العملاق الذي يفترس البشر، وكذلك نيويورك كما وصفها زوارها وأبناؤها أيضاً من الشعراء، فهي غابات من الأسمنت البارد كما قال كورسو، وهي آلات عملاقة من معدن بارد كما وصفها الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سنجور.
لكن من يلعنون المدن العملاقة نهاراً يعشقونها ليلاً، ويستلهمون من إيقاعاتها الصاخبة ما يضاعف من حماستهم للحياة!
أما المفارقة فهي أن من هجوا المدن الكبرى في شبابهم، أصبحت عودتهم إلى قراهم الصغيرة الهادئة عقاباً، فالمنفى ومسقط الرأس يتبادلان أحياناً الأدوار!