قضايا ودراسات

نظام عالمي يتكون.. مرفوض مرفوض

جميل مطر

ما زال الخبراء في أمريكا وخارجها يبحثون في المعاني وراء حملة الانتخابات التي جرت في الولايات المتحدة ونتائجها. اجتمعوا على قضية عزوف الناخبين والمرشحين الأمريكيين عن مناقشة السياسة الخارجية، واختلفوا حول معاني كل شيء آخر تقريباً، ومن بينها معاني هذا العزوف. العزوف في حد ذاته، ميل معروف للناخب الأمريكي وفي الوقت ذاته، هو تأييد غير معلن للسياسات الخارجية التي ينتهجها الرئيس. جرت العادة ألا يتدخل المرشحون في الانتخابات في قضايا السياسة الخارجية، فأغلبهم، باستثناء قليلين من المرشحين لمجلس الشيوخ، حديثو العهد بعالم السياسة الخارجية وأساليبه المعقدة ومؤسساته العتيدة.
أن تكون القاعدة أو العادة في أمريكا، عدم مناقشة أمور وقضايا خارجية في انتخابات تجرى في ظل ظروف دولية مستقرة، فهذا أمر مقدر ومفهوم. أما وأن العالم الخارجي يعيش أوضاعاً غير مستقرة وبعضها يهدد أمن أمريكا وسلام العالم للخطر في وقت لا تزال أمريكا القوة الأهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، يبدو الإصرار على عدم التدخل في الانتخابات في شؤون السياسة الخارجية، موقفاً غير مبرر وغير مفهوم. بل راح أحد صانعي الرأي من الغربيين يبالغ؛ فيصف هذا الإصرار من جانب المرشحين والناخبين الأمريكيين بأنه دليل إضافي على أن «روح أمريكا» في أزمة، وإذا كانت روح أمريكا في أزمة، فلا بد أن أمن وسلامة ورخاء العالم الغربي أمام أخطار وتهديدات لا قبل للحلف الغربي بها.
منذ بدأت فرنسا ودول أخرى في الغرب، تستعد للاحتفال بمرور مئة عام على نهاية الحرب العظمى الأولى، ونحن نقرأ اجتهادات لمعلقين كبار انشغلوا بعمل مقارنات، بين عالمنا الراهن وعوالم أخرى سابقة. هل نحن الآن أشبه بعالم نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما كانت ألمانيا صاعدة بسرعة رهيبة لتزيح الأسد البريطاني العجوز، وتحل محله. أم أننا الآن أشبه بعالم ما بعد الحرب العظمى الأولى، عندما تفرغت دولتان منهكتان لصنع نظام دولي جديد يقوم على اقتسام تركة إمبراطوريتين مهزومتين هما: الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الألمانية. تجاهلت فرنسا وبريطانيا، ومعهما اليابان، حقيقة أن عصر الإمبراطوريات انتهى بنهاية الحرب العظمى، وأن شعوباً تنهض من تحت وطأة الاستعمار لتتحرر وتستقل بإرادتها، وأن دولاً انهزمت مثل ألمانيا ولم تنهزم القوميات؛ بل انتعش بعضها في صور عديدة أبرزها الفاشية والنازية في أوروبا، والتوسعية اليابانية وثورات مسلحة كما في الصين، وحركات نخبوية وشعبوية كما في الحركة القومية العربية وحركة الاستقلال في الهند. تصورت القوى الفاشية والشعبوية، أن في إمكانها أن تقيم نظاماً دولياً من صنعها وتحت هيمنتها. أخطأت هذه القوى في ترتيب حساباتها وتقدير قوتها الحقيقية، فكانت النتيجة حرباً عظمى ثانية غيّرت بالفعل شكل العالم إلى الشكل الذي نعيش الآن آخر مراحله.
أعتقد أننا نمر بمرحلة يجب أن يكون قادة الدول الكبرى، حاسمين في توصيف معالمها أوصافاً سليمة، وإلاّ أوقعوا البشرية في مهالك جديدة.
لاأعرف بالدقة الواجبة إن كانوا توصلوا، ولعلهم سوف يتوصلون في اجتماعات قمة العشرين القادمة بعد أيام، إلى إجابة عن سؤال كثير التردد. يتساءل المفكرون عما إذا كانت إدارة العالم قد آلت بالفعل، أو هي تؤول الآن، إلى سلطة وهيمنة قوى اليمين، وبعضها متطرف أو متطرف جداً. الواقع الراهن يدفع إلى الشك في أن هيمنة اليمين في أمريكا وبعض دول أوروبا ودول أخرى في جنوب شرق آسيا كالفلبين، وفي أمريكا اللاتينية كما في البرازيل والأرجنتين وكولومبيا، تأتي يصاحبها مشكلات تتعلق بالهوية وبدرجة عالية من التعالي العنصري. تأتي وفي صحبتها أيضاً درجة غير ضئيلة من التوتر الاجتماعي على صعيد العلاقات بين الطوائف والأقليات. ومن المدهش أن قابلنا من يعتقد أن هيمنة اليمين، غير المعتدل، على برامج توزيع الثروة الوطنية والدخول، دفعت النساء والرجال على التباعد، الأمر الذي انعكس في إحصاءات الطلاق والانفصال بين الزوجين؛ بل وهو الأخطر على العلاقات اليومية بين الجنسين. على كل حال لا يجوز التعامل مع هذا الاجتهاد الخطير ببساطة قبل أن يتوافر لدينا ما هو أعمق من اجتهادات نظرية أو ملاحظات عابرة لمجتمعات بعينها.
لم أستهن يوماً بظاهرة ترامب في الساحتين الأمريكية والدولية ولم أقلل من شأنها. اليوم أنا أكثر اقتناعاً بأن هذا الرجل صار صاحب رسالة وقائد تيار عالمي، وربما لم يكن في يوم يحمل رسالة أو زعيماً لتيار. بل أقولها تحفظاً، إن هناك ربما من عثر على دونالد ترامب أو اكتشف قدراته. عثر عليه شخص أو تيار لديه رسالة قوية وأفكار لتنظيم ينتظر قائداً. في كل الأحوال لدينا الآن ترامب يحمل رسالة ويروجها ويتعامل مع أقرانه من حكام العالم بصفته الزعيم المنتظر.
ليس صعباً على المهتمين بالعلاقات الدولية ومستقبل دولهم ومنظماتها الإقليمية، تصور حال هذه العلاقات والمستقبل في ظل نظام دولي جديد يشتغل على صنعه وصياغته جماعات وتيارات دولية يقودها الرئيس الأمريكي الحالي، بالأصالة عن نفسه أو نيابة عن هذه الجماعات والتيارات.
على الناحية الأخرى توجد دول كبرى، إحداها صاعدة وأخرى تستعيد مكانتها، حريصة بدورها على صياغة نظام دولي جديد بسمات أيضاً مختلفة تماماً عن النظام المنقضية صلاحيته. المفاجأة التي تنتظر كل الشعوب، هي في أهم السمات التي سوف يتصف بها النظامان اللذان سوف تطرحهما الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. كلاهما يخاصم القيم الليبرالية واليسارية وقوى التحرر من الهيمنة.

زر الذهاب إلى الأعلى