هل تعرف كنتاكي يا صديقى؟
أقول كثيرا إن المؤسساتية هى الفريضة الغائبة.. فهى شرط للتقدم والنجاح فى أى عمل أو نشاط عام أو خاص، وهى أساس فهى نظم المجال العام على لحن منتظم من مرجعية القانون وانضباط السلوك وموضوعية المعايير.. هى وحدها ما يحررنا من الشخصنة والأمزجة والميول والتلون والتمصلح، المؤسساتية هى تجلى القانون والمساواة ماديا، فالقانون أعمى لا يميز مواطنا عن آخر ولا أبيض عن أسود.
تذكرت مفهوم المؤسسة ونحن نناقش مع نخبة من الزملاء فى نقابة الصحفيين التحضير لمؤتمرها، ومناقشة مستقبل المؤسسات الصحفية، وأتذكره دائما كلما سمعت الشكايات من الشخصنة والفساد وغياب المعايير.
ينقذنا مفهوم المؤسسة والمؤسساتية- الأداء المؤسسى وليس فقط اسمها- من غول الشخصنة وتحويل بعض المؤسسات لعزب خاصة، تستهدف مصالح مدرائها وأهدافهم البعيدة عن أهدافها، فيقربون من يشاءون ويستضيفون من يشاءون ويكرمون من يشاءون ويهينون من يشاءون.. (وكأنها عزبة أبيه حضرته!).. هكذا يصفون المدير السيئ.
تخيلت هذا الحوار، وتداعت أفكارى أوضح مفهوم المؤسسة الحديث الذى نشأ وعرفناه مع الدولة الحديثة، وكان يسميه رفاعة الطهطاوى التنظيمات العمومية، وتنطلق بنا من شاهبندر التجار إلى نقابة التجاريين، كما انتقلت بنا من نموذج الغلباوى والعرضحالجى إلى المحامى ومعايير نقابة المحامين، ومن التنظيمات التقليدية العشوائية قبل الحداثة إلى الحداثة القانونية.
إدارة المجال العام والخاص، وعلاقات أى مؤسسة بالمستفيدين منها والمتعاملين معها، تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية هى كما يلى:
أولا: المعيارية المهنية والتكامل المؤسسى: التى تستهدف تحسين مستوى الأداء للمنتسبين إليها، وتحديد معايير للتعامل فيما بينهم أو مع الآخرين، تمكن فيهم الكفاءة وتحميهم من فيروس الفساد والتكسب من العمل، وتحدد الاختصاصات والتوصيفات الوظيفية وتحدد حدودها وتكاملها، فلا تتداخل الاختصاصات وتتكامل المسؤوليات، وتنضبط الإدارة بالتفريق بين القرار وصاحبه وبين صناعته نفسها، كما تقول علوم الإدارة الحديثة.
ثانيا: المدونة السلوكية والرقابية: وهى مدونة تراقب الأداء الوظيفى وسلوكياته، فتحظر على الموظفين استغلال الوظيفة والنفوذ والسلطة أحيانا، أو مجاملة أحد على حساب أحد، والتمييز فى التقييم، أو إرهاق المتعاملين معها، وتمنع عليهم أى سلوك خارج لا يليق بمعايير المؤسسة وأهدافها الكلية أو التفصيلية، فيشعر الموظف دائما أن له مدونة سلوكية يلتزم بها، وفق القانون وقواعد وأهداف العمل، فيجرم ويحاسب الخارج، المسؤول الذى يضغط على موظفيه أو يبتز المستفيدين من المؤسسة أو المرتشين، أو المتحرشين أو ما شابه، وبذلك ومع المبدأ السابق ينتظم المبدأ السابق ويرتفع مستوى الأداء العام بها.
ثالثا: استراتيجية دائمة للتقييم والأداء: تمتلك المؤسسة دائما رؤيتها المرنة لتقييم أدائها العام وأداء موظفيها، وتحقيق أهدافها ومن ثم أبعاد تطويرها وفق تحدياتها ومستجداتها.
أشعر أن الكلام صعب وعسير فهمه، فقلت أبسطه لصديقى القارئ الافتراضى، وقلت له هل تعرف شركة كنتاكى؟، قال أزورها وأحبها.. قلت خيرا وبركة، لقد أسسها كولونيل ساندرز سنة ١٩٣٠، هل تعرف أنها تمتلك ٢٠ ألف فرع فى العالم، فى ١٢٣ بلدا فى العالم منذ العام ٢٠١٥، وأنها تفتتح سنويا أكثر من ٨٠٠ فرع جديد، وأنها مجرد فرع من فروع شركة يم براندز Brands Yum العالمية للتغذية العابرة للقارات، التى تملك معها براندات أخرى كبيتزا هت وستاربكس وغيرهما، وحققت فى فبراير الماضى أرباحا تجاوزت ٤٦٣ مليون دولار فى الثلاثة أشهر المنتهية فى ديسمبر الماضى، مقارنة بـ ٣٧١ مليون دولار فى الفترة المقارنة من العام السابق فقط.
قلت له: هل لاحظت المدونة السلوكية والرقابية والتطوير المستمر لأدائها عند دخولك لديهم؟، وأنهم يعاملون الجميع سواسية، بلا تمييز، وأن كل أمر منظم، وأن الموظفين لديهم نفس السلوكيات ونفس الأداء، مع الجميع، وتتم الترقية للعاملين وفق معايير الأداء؟، كانت إجابته إيجابا بنعم.
قلت له هذه هى المؤسساتية سر النجاح.. وهذا هو الفارق بين المؤسسة والعزبة، وبين الأمزجة والمرجعية القانونية المبصرة العمياء التى لا تميز بين فرد وآخر، وهذه المعايير التعاملية والمهنية والسلوكية حتى الشكلية وفضلا عن التقييمية والتطويرية المستمرة هى مفهوم المؤسساتية!. وتمثل كنتاكى مؤسسة أصغر من مؤسسة عالمية أكبر.. عابرة للقارات.
نعم لننظر إلى كنتاكى- بعيدا عن دعوات المقاطعة الآن- ونفهم معنى المؤسسة.. والأداء فى المجال العام وإدارة علاقاته وقراراته.. حتى لا تكون بعض مؤسساتنا مطية للاستغلال أو وسيلة للفساد والابتزاز.. فتنتظم حياتنا العامة بتنظيماتنا العمومية حسب تعبيرات الطهطاوى رحمه الله.
* نقلا عن ” المصري اليوم”