وقيعة الإيرانيين بين ترمب وبولتون
ممدوح المهيني
جون بولتون، مستشار ترمب للأمن القومي، مادة جاهزة لسخرية رسامي الكاريكاتير. شارب كثّ وملابس رخيصة ولسان حاد لا يعرف المجاملة. صوروه بالشيطان والفاشي وقارع طبول الحروب. وقد عادت هذه الصورة مؤخراً مع التوتر المتصاعد بين واشنطن وإيران.
حاول كارهو بولتون من الإيرانيين والمتعاطفين معهم داخل أميركا من معلقين وباحثين استغلال الفرصة وتسميم عقل ترمب ضد مستشاره، من خلال تصوير أن الحرب هي حرب بولتون وليست حرب ترمب، المدفوع لها دفعاً بوسوسة من يجلس بالعادة خلفه. لأول مرة يثنون على رباطة جأش ترمب وهدوئه، وهم من يصفونه دائماً بالمعتوه والطفولي، وبالطبع ليس حباً فيه ولكن كراهية لمستشاره.
وقد ظهر وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في لقاءات صحافية وضغط على مسألة تأثير بولتون السيئ على الرئيس، الذي لا يسعى لمواجهة عسكرية مع طهران. محاولة للعب على أنا ترمب المتضخمة في وقت حساس، وجعله يشعر أن موظفاً لديه يتجاوزه ويقزمه أمام مرأى العالم حتى يعزله وبهذا يتخلصون منه. أحبطت هذه المؤامرة الصغيرة مبكراً، وأعلن ترمب أن هناك تقارير مزيفة في الصحافة وأنه يتفق مع مستشاره ووزير خارجيته حول طهران مغلقاً بذلك أي باب للدسائس.
وعرفنا الآن من التقارير الصحافية المسربة من البيت الأبيض أن ترمب هو من دفع بولتون ليتخذ مثل هذا الدور التصعيدي مع طهران، وجعله هو، وليس وزير الدفاع، يعلن إرسال حاملة الطائرات لنكولن. تكتيك سياسي كلاسيكي يجسد فيه بولتون دور الشرطي السيئ حتى يمنح الشرطي الجيد ترمب مزيداً من الأوراق وقت المفاوضات. أي أن المستشار كان يقوم بوظيفته المطلوبة منه بطريقة منطقية ومقنعة.
هذه الخديعة الذكية مدبرة بإحكام. يدرك مطلقوها أن الرئيس ومستشاره لا يريدون حرباً الآن مع إيران، ولكنهم يعرفون أن هدفهم رأس النظام بعد سنوات، وقد بدأت مع العقوبات الأخيرة. لهذا كان الهدف هو ضربة استباقية لتمزيق هذا الفريق قبل أن يحقق هدفه الأخير. لكنها كشفت بشكل غير مقصود جانباً إيجابياً، هو أن ترمب يثق بمستشاره للأمن القومي. وربما من حسن الحظ وجوده مع وزير الخارجية بومبيو في هذا الوقت بالتحديد ليوفرا الذخيرة الفكرية التي يحتاج ترمب ليقدم على قرارات كبيرة في السياسة الخارجية، وقد رأينا ذلك بكوريا الشمالية والاتفاق النووي وتصنيف الحرس الثوري إرهابياً. الرئيس الأميركي يملك الحدس والإرادة ولكن هذا غير كافٍ بدون رؤية سياسية واضحة، وهذا طبيعي مع رجل أمضى حياته بعالم المال والأعمال بعيداً عن الصراعات السياسية الأيدولوجية بين تيارات اليسار واليمين التي تحاول تشكيل العالم على صورتها.
ولكن ترمب أحب بولتون من خلال شاشة فوكس نيوز، معلقاً سياسياً يملك رؤية واضحة للعالم وللأشرار والأخيار، مشابهاً له، شخصية غير اعتذارية ولا تلطف آراءها بالمجاملات وإجابات محترفي الدبلوماسية التي تقول كل شيء ولا تقول شيئاً بذات الوقت. وأعجب به أكثر لانتقاده فريق أوباما ومشاريعهم السياسية التي وصفها بالفاشلة والتخريبية، خصوصاً الاتفاق النووي. تضاعف هذا الإعجاب بسبب أن بولتون يتفق مع ترمب بأنهما ضد المؤسسات البيروقراطية بحجة أنها تضخمت وأصبحت عبئاً وبلا نفع. ولدى بولتون تصريح متهكم معروف عن الأمم المتحدة قال فيه: “إن هذه البناية الضخمة بـ38 طابقاً، لو أزيل منها 10 طوابق لن يتغير أي شيء..”.
وضوح بالرؤية بدون رطانة المنظرين والأكاديميين وكراهية حقيقة لخصومه ولقاء في المزاج، جعل ترمب على يقين أن بولتون هو رجله في المرحلة القادمة. خصوصاً عندما قارنه بمستشاره القومي آنذاك مكماستر، الجنرال المغرم بذاته والمحب لتعليق النياشين المرصعة على صدره والمحب لسماع جرس المصطلحات الفخمة تخرج بين شفتيه. ويقال إن ترمب أوقفه في أحد المرات وهو يقدم عرضاً بالمكتب البيضاوي قائلاً: “انظروا إليه.. يبدو شديد الجدية!”، أي توقف عن إزعاجي بكلماتك المنمقة الفارغة.
أهمية بولتون كبيرة في الموضوع الإيراني الذي يهمه شخصياً ويعرفه أكثر من غيره، بصفته مسؤولاً سابقاً وحالياً، وبينهما متابع مشارك للمعارضة الإيرانية نشاطاتها. يمقت النظام في أعماقه لأنه قرأ تاريخه واحتك به ويعرف دمويته وخطورة ميليشياته ويدرك أنه عصيّ على الإصلاح، وقد هتف مرة بالقول: أيها الملالي، لن تحتفلوا مرات كثيرة بالذكرى السنوية لوصولكم للحكم”.
وجوده إلى جانب ترمب يجعل الرئيس يتذكر هذه الحقيقة وربما يقوم بشيء بالمستقبل حياله ويغير مسار التاريخ للأبد. وقد بدأ ذلك بالفعل مع الحصار الاقتصادي الخانق الذي قد ينتهي بنهاية النظام نفسه. واتهام بولتون بإشعال حرب وأنه مثل المخمور الذي يقود السيارة بسرعة عالية، وسيورط ترمب ويدفعه لتنفيذ أجندته الخاصة. كل هذه اتهامات غير صحيحة ويدرك مطلقوها أن ترمب لا يبحث عن حرب مع إيران الآن، ولكنهم يسعون لإبعاد بولتون من الآن، لأنهم يدركون أن حماسه مشتعل، ويرسم التصور الصحيح بعيد المدى للرئيس بالطريقة التي يمكن أن يكتب نهاية نظام طهران. باختصار، أرادوا أن يتغدوا به قبل أن يتعشى بهم.
وهناك من ينتقد بولتون بالقول إنه مجنون ومتهور وسيعيد سيناريو العراق، ولكن هذا غير صحيح. فكرة العراق كانت قائمة على مبدأين وهما الديمقراطية وبناء الأمم، ولا يوجد أحد من فريق ترمب يترنم بهذين المصطلحين كما كان يفعل رامسفيلد وديك تشيني. ولكن تركيع النظام الإيراني ينطلق من منطلق واقعي بدون مثاليات وشعارات، وهو أن النظام لا يمكن التساهل معه، ويجب إيقافه عند حده بالحصار الاقتصادي الخانق كخطوة أولى أو المواجهة العسكرية، إذا اقتضت الضرورة والبديل سيكون بلا شك أفضل منه، وبهذا يعود الأمن للمنطقة والعالم بعد 4 عقود من الفوضى ودعم المنظمات الإرهابية. وهذه قرارات رئاسية كبرى تأخذ وقتاً طويلاً، ولكن تحتاج شخصاً مثل بولتون، كي يهمس بها يومياً بأذن الرئيس حتى تتحقق.