يسمع ويرى ويتكلم
الإشارة الأولى التي تلقاها «بيتهوفن» كانت الطنين الذي سكن أذنيه وهو شاب في السادسة والعشرين من عمره لينتهي رويداً رويداً إلى الصمم الكامل، ومع ذلك: أعمال موسيقية خالدة في التاريخ من سيمفونيات وسوناتات ومقطوعات وترية.
أنطق البيانو، وحوّل الكمان إلى كائن حي، والأهم من ذلك أن الرجل «الأطرش» كان يسمع دبيب الصوت المولود من الريح، والينابيع، والغابات.
تقول الحكمة الصينية: «..لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم»، وهذه طبيعة الكائن البشري الانزوائي ولا يؤمن بها العباقرة، وصنّاع الفنون العظيمة.. وأول هؤلاء صاحب اللغة السيمفونية التي أصبحت لغة العالم، وقاد بها البشرية إلى الجمال والرقة والرقي بحنان إنساني عظيم.
جدّه موسيقي، ووجد نفسه في مكان صوتي أو بيئة صوتية قوامها الفن، والأصوات التي اختزنها في أذنيه قبل أن يفقد السمع لم تكن هي التي صنعت «بيتهوفن»؛ بل، هو من استولد الصوت مما هو حي ومما هو جماد.. هو الأول الذي سمع.
الثاني الذي رأى كان «خورخي لويس بورخيس».. الأعمى المبصر أكثر من ذوي العيون الجاحظة، سيد الرمل والمتاهات، رأى وكتب: «..هذا الذي يحضن المرأة هو آدم..//.. والمرأة هي حوّاء..//.. وكل شيء يحدث للمرة الأولى.
رأيت شيئاً أبيض في السماء..//.. يقولون لي إنه القمر..//.. لكن ما عليّ أن أفعله بهذه الكلمة..//.. بهذه الميثولوجيا كلها..//..».
شاعر أحلام كان بورخيس الرائي الكبير.. يقول.. «..حلمت بقرطاجنة..//.. بفرق الرومان التي أذاقتها العذاب..//.. حلمت بالسيف والميزان..//.. مباركٌ هو الحب الذي ليس فيه طرف مالك، وآخر مملوك..».
شعر كهذا لا يقوله شاعر ضرير، ولم يكن صاحب السعادة القصوى، وصاحب الإسكندرية والأناشيد والإعجاب المضاعف بالثقافة الإسلامية والعربية.. لم يكن ضريراً. كان صاحب رؤية، وصاحب رؤيا أيضاً، وإلا لم يكن يحمل دائماً ذلك المصباح ذو الضوء الأخضر ليمشي في النور بلا تلكؤ ولا وَهَنْ.
صاحب قامة طويلة كالقلعة.. وكان هو قلعة نفسه، لكنها لم تكن قلعة مغلقة.. بل أشبه بجزيرة مفتوحة لكل من يرى ويسمع ويتكلم.
الثالث الذي تكلم كان ذلك الرجل الأخرس والد الروائي الأمريكي «مايرون أولبريخ»..
ولد أولبريخ لأب أخرس لا يسمع ولا يتكلم، وأم خرساء أيضاً، ولكنه في روايته «يدا أبي» حولهما إلى ضميرين متكلمين.. يقول.. «..أكثر ما يتجلى بوضوح في ذاكرتي، هما يدا أبي، نطق أبي بيديه، كان أصماً.. كان صوته في يديه، ويداه مستودع ذاكرته».
الآن.. اعكس المثل الصيني والحكمة الصينية.. قل: اسمع.. أرى.. أتكلم.. وأكثر من ذلك أكتب، ثم أكتب.
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.com